fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

عنتيبي اتفاقية مائية مثيرة للجدل تعود للواجهة من جديد.. دلالة التوقيت ومشروعيته

0 58

عنتيبي اتفاقية مائية مثيرة للجدل تعود للواجهة من جديد.. دلالة التوقيت ومشروعيته

اتفاقية عنتيبي تمثل محطة محورية في تاريخ العلاقات بين دول حوض النيل، حيث شهدت توقيعها عام 2010 نقلة نوعية في كيفية تعامل دول المنبع مع قضية توزيع مياه النيل.

الدول الموقعة على هذه الاتفاقية، والتي تشمل إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا، وبوروندي بالإضافة إلى جنوب السودان لاحقًا، سعت إلى تعديل الحصص التاريخية للمياه التي كانت تهيمن عليها دولتا المصب، مصر والسودان، وفقًا لاتفاقيتي: 1929 و1959.

هذه الاتفاقيات كانت تمنح مصر والسودان النصيب الأكبر من مياه النيل، وهو ما اعتبرته دول المنبع غير عادل، خاصة مع تزايد احتياجاتها التنموية وزيادة عدد سكانها.

في المقابل، تري دول المنبع أن الوقت قد حان لإعادة النظر في توزيع الموارد المائية بشكل يعكس التغيرات الديموغرافية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة على مدي العقود الماضية.

ووفقًا لهذه الرؤية، فإن اتفاقية عنتيبي جاءت لتصحيح ما تعتبره دول المنبع إجحافًا تاريخيًّا في توزيع مياه النيل؛ فالاتفاقية تتيح لدول المنبع الحق في إقامة مشروعات على مجرى النيل دون الحاجة إلى موافقة مسبقة من دول المصب، مما يفتح الباب أمام مشروعات ضخمة مثل سد النهضة الإثيوبي.

هذه الخطوة أثارت حفيظة مصر بشكل خاص، التي تعتمد بشكل شبه كامل على مياه النيل لتلبية احتياجاتها المائية، وفي هذا السياق، تعتبر مصر أن الاتفاقية تشكل تهديدًا لأمنها المائي والقومي، وهو ما دفعها إلى رفض الاتفاقية وعدم الاعتراف بها.

أما على الصعيد الدبلوماسي، فقد أفرزت اتفاقية عنتيبي توترات بين دول حوض النيل، حيث انقسمت الدول بين مؤيدة ومعارضة للاتفاقية، هذا الانقسام أثر على التعاون الإقليمي في مجالات عدة، بدءًا من المياه وصولًا إلى الاقتصاد والسياسة.

فمع استمرار الخلافات حول هذه الاتفاقية، يبقي مستقبل التعاون المائي في حوض النيل معلقًا على قدرة الدول المعنية على الوصول إلى حلول وسط ترضي جميع الأطراف.

القواعد والأطر المنظمة لاستخدام مياه الأنهار في القانون الدولي:

مياه الأنهار العابرة للحدود هي تلك التي تقع في المجرى المائي الدولي، الذي يعبر حدودًا دولية لأكثر من دولة أو يفصل الحدود بينهما، فتصبح تلك المياه مشتركة بين الدول المتشاطئة بغرض الملاحة والشرب والري، إلخ، وهو ما تعارفت عليه دول الأنهار العابرة للحدود فلم تدع دولة أنها تمتلك النهر وتمنع الأخرىن من استخدامه، لأن في ذلك تعديًا على حقوقها‏.

تعددت النظريات الفقهية الناظمة للانتفاع بالنهر الدولي التي حاولت أن تؤصل لحقوق الدول النهرية المتشاطئة، واختلفت فيما بينها، فمنها من حاول أن يُغلّب مصالح دول المنبع، ومنها من غلَّب مصالح دول المصبِّ، ومنها من حاول تحقيق مصالح الدول المشاركة في مياه النهر كافة.

لكن على الرغم من هذا التعدد، يظل استغلال الأنهار الدولية، وتحديد حصص الدول المشاطئة للنهر، خاضعًا للأحكام العامة للقانون الدولي المكتوبة أو المستقرة عرفًا، ما لم تكن هناك اتفاقيات خاصة ثنائية أو جماعية بين دول مجرى النهر تنظم هذه الأمور، حيث تكون لها الأولوية في التطبيق؛ أخذًا بمبدأ أن الخاص يجبُّ العام، والتزامًا بمبدأ قدسية العهود والمواثيق، ولما كان الواقع يشير إلى اختلافات لا حصر لها في الظروف والأحوال والاعتبارات المحيطة بكل نهر دولي عن سواه من الأنهار الدولية؛ بحيث إن كل نهر منها يعدّ نموذجًا فريدًا في ذاته، وإنْ تشابه في بعض الجوانب مع غيره، فإنه يكون من البديهي ألّا تكون هناك قواعد قانونية دولية موحدة تصلح للتطبيق على كل الأنهار الدولية في آن واحد، وإنما قواعد عامة يأخذ منها ذوو المصلحة ما يرونه ملائمًا، ويدَعون ما يرونه غير ملائم، ومن ثم، فقد كان العرف الدولي هو المصدر الأكثر قدرة على تقديم هذه القواعد العامة‏(1).

اتفاقية عنتيبي من منظور القانون الدولي:

في 14 مايو 2010 وقَّعت كلٌّ من: (إثيوبيا – رواندا – تنزانيا – أوغندا – كينيا – بروندي) على اتفاقية عنتيبي دون انهاء الخلاف والمفاوضات مع دول المصب؛ وهي: مصر والسودان، وفي 2024 انضمت جنوب السودان للاتفاقية ووقعت عليها.

وعلى الرغم ان اتفاق عنتيبي كان الهدف منه ترسيخ أواصر التعاون بين دول حوض النيل لتحقيق الاستخدام المنصف والمعقول لمياه نهر النيل؛ إلا أنه تضمن بعض الموضوعات التي من شأنها الخلاف بين دول المنبع ودول المصب حيث جاء الخلاف حول ثلاث نقاط؛ وهي:

المادة (14) الخاصة بالأمن المائي:

المادة (18) موافقة مصر على أي مشروع مائي تقام على أعالي النيل والإخطار المسبق.

وقد خالفت اتفاقية عنتيبي قواعد القانون الدولي للاستخدام المجاري المائية الدولية ومن أهم تلك القواعد هي قواعد هلنسكي 1966 التي وضعت هذه القواعد بمعرفة ”جمعية القانون الدولي“، وهي أكبر منظمة مهنية متخصصة في مجال القانون الدولي، وقد كان لتلك القواعد أهمية بالغة في تطور القانون الدولي للمياه؛ وذلك لما تضمنته من مبادئ صارت محل قبول ال عديد من الدول المتعاونة في مجال الموارد المائية المشتركة، وتسري هذه القواعد بشكل عام على جميع الدول المشاركة في أحواض الانهار الدولية ما لم  تكن هناك اتفاقيات أو معاهدات مُلزمة بين هذه الدول تتضمن ما يخالفها.

ومن أهم قواعد هلنسكي:

– النصيب العادل والمنصف الذي تقرر في المادة السابقة يمكن تحديده على ضوء مجموعة من الاعتبارات الموضوعية، ومن بينها -على سبيل المثال-: عدد السكان واحتياجاتهم المائية، ومدي الاحتياج لعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة.

– حماية الحقوق التاريخية المتمثلة في حجم المياه السابق استخدامها قبل نشوب النزاع(2).

اتفاقية عنتيبي وتهميش القاهرة والخرطوم:

تصاعدت حدة الأزمة، حينما قررت دول منابع النيل التوقيع في مدينة عنتيبي الأوغندية على معاهدة جديدة لاقتسام موارد نهر النيل، ومنحت الدول المجتمعة كـلًّا من القاهرة والخرطوم مهلة عام واحد للانضمام إلى المعاهدة إذا رغبتا في ذلك.

وصفت مصر الاتفاقية حينها بالمخالفة للقانون الدولي وللقواعد المعمول بها في الجهات الدولية المانحة، وخاطبت الأطراف المانحة للتنبيه بعدم قانونية تمويل أي مشروعات مائية، سواء على مجرى النيل أو منابعه، تؤثر سلبًا في الأمن المائي لدولتي المصب: مصر والسودان‏.

والمؤسف في الاتفاقية: أنها تنص على أنه بمجرد سريانها تنتهي الحصص التاريخية لدولتي مصر والسودان؛ مع ملاحظة أن سبب اعتراض مصر والسودان هو عدم اعتراف إثيوبيا بحصة مصر المائية، حيث كانت إثيوبيا تلوّح بأنها لن تضر بحصة مصر، وقد وقّع على الاتفاقية 6 دول؛ هي: إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي؛ وبقيت ثلاث دول لم توقع؛ وهي: مصر وشمال السودان والكونغو الديمقراطية‏(3).

أبرز نقاط الخلاف بين دول عنتيبي ومصر والسودان:

تصاعدت معارضة بعض دول حوض النيل للاتفاقيات القائمة بين دول حوض النيل لأكثر من سبب؛ أبرزها: عدم التوصل إلى اتفاق حول الإطار القانوني والمؤسسي لمبادرة حوض النيل، حيث تتحفظ كلٌّ من: مصر والسودان على بعض بنود الاتفاقية الحالية، التي وقعتها كلٌّ من: إثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، وتنزانيا، ورواندا، في 14 أيار 2010، وأخيرًا: بوروندي التي وقّعتها، في أول مارس 2011، ما سيؤدي إلى دخول الاتفاق الإطاري حيز التنفيذ بعد تصديق برلمانات تلك الدول عليه.

تمثّلت أبرز نقاط الاختلاف بين دولتَي المصب: (مصر والسودان) وباقي دول حوض النيل بالآتي‏:

أ – عدم تضمين البند الرقم (14 ب) الخاص بالأمن المائي نصًّا يقضي بالحفاظ على حقوق مصر التاريخية والمكتسبة من مياه النيل.

ب – عدم تضمين البند الرقم (8) من الاتفاقية، والخاص بالإخطار المسبق عن أي مشروعات تقوم بها دول أعالي النيل، على أن يتم إدراج هذه الإجراءات في نص الاتفاقية وليس في الملاحق الخاصة بها.

ج – طلب مصر تعديل البندين الرقم (34 – أ) و(34 – ب)، بحيث تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أي من بنود الاتفاقية أو الملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية، وفي حالة التمسك بالأغلبية فيجب أن تشمل الأغلبية دولتَي المصب: (مصر والسودان) لتجنب عدم انقسام دول الحوض ما بين دول المنابع التي تمثل الأغلبية ودولتي المصبّ التي تمثل الأقلية.

د – اقتراح دول المنابع وضع البند الخاص بالأمن المائي، البند الرقم (14 ب) في ملحق للاتفاقية، وإعادة صياغته بما يضمن توافق دول الحوض حوله، خلال ستة أشهر من تاريخ توقيع الاتفاقية، حيث رفضت مصر هذا المقترح وطرحت بدلًا منه اقتراحًا بتشكيل لجنة وزارية رباعية من كل من مصر والسودان وإثيوبيا وإحدى دول حوض النيل الاستوائية، إضافة إلى خبير أو اثنين من المنظمات الدولية، للتوصل إلى صيغة توافقية حول البند الرقم (14 ب) الخاص بالأمن المائي والحقوق التاريخية، والانتهاء من هذه الصيغة التوافقية خلال ستة أشهر(4).

3 مجالات خلافية بين دول حوض النيل على الاستحقاق المائي:

هناك ثلاثة مجالات أساسية للخلاف المائي في حوض نهر النيل؛ هي:

  • الخلاف حول اتفاقيات مياه حوض النيل:

الموقف الثابت لدول المنبع منذ استقلال هذه الدول هو رفض جميع اتفاقيات النيل القائمة والمطالبة باتفاقيات جديدة بحجة أن جميع الاتفاقيات السابقة قد وُقِّعت في العهد الاستعماري، ومن ثُـمَّ هي في حِلٍّ من هذه الاتفاقيات. لكن الموقف المصري والسوداني يؤكد مشروعية كل الاتفاقيات السابقة استنادًا إلى مبدأين مهمين في القانون الدولي:

المبدأ الأول: التوارث الدولي للمعاهدات: وهو مبدأ معروف أكدت عليه مجموعة من الاتفاقيات والأعراف الدولية، وعلى رأسها اتفاقية فيينا عام 1978.

المبدأ الثاني: الحق التاريخي المكتسب، وهو أحد المبادئ المستوحاة من اتفاقية فيينا عام 1966.

  • الخلاف بين دول المنبع وبين دولتي المصبّ حول تقاسم مياه النيل:

تطالب دول المنبع بضرورة أن يكون هناك زيادة في حصصها المائية، ورَفْضِ استئثار دولتي المجرى والمصبّ بالإيراد المائي لنهر النيل كله، لكن مصر والسودان شدّدتا على مبدأ الانتفاع العادل والمنصف بموارد النهر، وذلك من خلال انتفاع كلِّ الدول بموارد النهر وليس فقط بالمفهوم الضيق لمياه النهر.

من هنا كانت تأكيدات مصر والسودان الدائمة لضرورة تبنِّي مفهوم الحوض وليس مفهوم المجرى، ومن هنا أيضًا يُفهَم الموقف المصري في رفضه للاتفاقية الإطارية أو تحفُّظاته على الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة عام 1997، تلك التي انطلقت من تمزيق مفهوم الحوض والأخذ بمفهوم المجرى المائي، وهو بكل المقاييس لصالح دول المنبع وليس دول المصب.

  • شرط الإخطار المسبق:

تؤكد مصر والسودان دومًا ضرورة الالتزام بشرط الإخطار المسبق عمـلًا بقاعدة قانونية أيضًا، هي قاعدة عدم التسبب في الضرر، وهذه أيضًا من القواعد غير الخلافية في القانون الدولي، وربما أحيانًا يكون الخلاف حول مفهوم «ضرر أم ضرر جسيم؟».

والمراد أن مصر والسودان تؤكدان ضرورة احترام هذا المبدأ، وإلزام دول المنبع بعدم القيام بأي مشروعات مائية إلا بعد إخطار مصر والسودان مسبقًا، وفي المقابل تؤكد دول المنبع عدم التقيد بهذا الشرط واعتباره مخـلًا بسيادة هذه الدول، إذًا هناك عدة نقاط اختلاف:

النقطة الأولى: ترتبط بإصرار مصر والسودان إصرارًا كامـلًا على أن الاتفاقية الإطارية يتعين أن تُوِرَد نصًا يحترم ما تتمتعان بهِ من حقوقٍ مضمونة من الناحية القانونية بموجب الاتفاقيات السابقة، وبموجب القواعد العرفية.

النقطة الثانية: تتعلق بالإخطار المسبق: وهو مبدأ مستقر، فكل الوثائق الدولية التي تنظِّم استغلالًا لمياه أنهار دولية تتحدث عن مبدأ الإخطار المسبق.

النقطة الثالثة: هي أن هذه الاتفاقية الإطارية من المفترَض أن تعتمد على التوافق العام، وهو ما يعني أن قواعد التصويت فيها تكون بالتوافق العام، وهو مثل فكرة الإجماع، لكنه إجماع سلبي وليس إجماعًا إيجابيًّا، وهذا يعني أن القبول فيه ليس وجوبيًّا، ولكن الوجوبي هو عدم الرفض، وكأن السكوت علامة الرضا، وبناءً على ذلك قَبِلَت مصر بهذا، غير أن باقي الشركاء قالوا: إننا عندما نريد أن نعدِّل الاتفاقية أو نعدِّل ملاحق لها أو أي بروتوكول فيها، فإنه يتعين أن يكون ذلك بالأغلبية العادية وهنا قالت مصر والسودان: تتم مسألة التعديل إما بالتوافق العام وإما بأغلبية بسيطة شريطة أن يكون فيها مصر والسودان(5).

الحقوق التاريخية لمصر والسودان:

بعد سرد هذه الأطر نجد أن دول المنبع ترغب في عدم الاعتراف بالاتفاقيات القائمة لمياه نهر النيل وهي التي تنص على عدم التأثير على الحقوق والاستخدامات الحالية لنهر النيل.

كذلك كان الخلاف حول رؤية دول المنبع فتريد دول المنبع التوصل لاتفاقية متعددة الأطراف تتضمن إعادة تقسيم المياه بين دول حوض النيل؛ ولكن دول المصب -وهي مصر والسودان- تريد التوصل لاتفاقية تتضمن المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تنظم التعاون والعلاقات بين دول حوض النيل واولوية هذه المبادئ في حقوق مصر والسودان في الحصص التاريخية لنهر النيل والتمسك بمبدأ عدم الضرر المرتكز إلى مبدأ الحقوق المكتسبة والاستخدام المسبق.

ودافعت مصر والسودان كدول مصب عن الوضع القائم كحق مكتسب من اتفاقيات ومعاهدات دولية مبرمة سابقًا، بينما تري دول المنبع وفي صدارتها اثيوبيا ضرورة وضع إطار قانوني جديد لتخصيص المياه وإعادة التفاوض على الاتفاقيات القائمة بالفعل والتوصل لاتفاقيات جديدة.

وهو ما نراه مخالف لقواعد القانون الدولي ومخالفته للمبدأ القانوني الدولي في حجية الامر المقضي به والتوارث الدولي للمعاهدات؛ حيث إن ذلك بناء على معاهدات تم التصديق عليها سابقًا ودخلت حيز التنفيذ واكتسبت شرعية دولية(6).

الأبعاد الجيوسياسية لانضمام جنوب السودان لاتفاق عنتيبي ودلالة الوقت:

تعزيز التحالفات الإقليمية:

يعكس تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي في هذا الوقت رغبة جوبا في تعزيز علاقاتها مع دول حوض النيل، خاصةً الدول الموقعة على الاتفاقية وهي إثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا والذين يعدون بمثابة حلفاء مهمين لجنوب السودان في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة الوليدة، وفي ضوء الصراعات المستمرة مع الخرطوم وعدم الوصول لاتفاق نهائي في القضايا العالقة بين البلدين؛ لذا فقد يكون توقيع هذه الاتفاقية خطوة إستراتيجية لتعزيز التحالفات مع دول المنبع وتأمين الدعم السياسي والاقتصادي.

تسعي جنوب السودان كذلك من أجل تقوية موقفها التفاوضي مع السودان ومصر عند مطالبتها بحصتها من مياه النيل؛ خاصة وأن دخول اتفاقية عنتيبي حيز النفاذ يعيد توزيع الحصص بين دول حوض النيل بدون الحقوق التاريخية المكتسبة التي تعطي لمصر والسودان النصيب الأكبر من مياه النهر.

الاستقلال السياسي وتأكيد السيادة:

تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي يعكس رغبتها في تأكيد استقلالها السياسي عن السودان ودول المصب الأخرى، ومن خلال اتخاذ موقف مستقل في هذا الشأن، وتسعي جوبا لإبراز نفسها كدولة ذات سيادة وقرار مستقل، في وقت تسعى فيه الخرطوم والقاهرة إلى الحفاظ على مصالحهما التقليدية في مياه النيل.

ضغوط داخلية وخارجية:

يمكن اعتبار توقيت التصديق على الاتفاقية استجابة للضغوط الداخلية والخارجية؛ حيث تواجه حكومة جنوب السودان ضغوطًا داخلية كبيرة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي وتقديم خدمات أفضل لمواطنيها ورفع مستوي معيشتهم.

أما عن الضغوط الخارجية؛ فقد تكون هناك ضغوط من الدول الغربية والمانحين لتبني مواقف معينة تتماشي مع الأجندات الدولية في المنطقة؛ وهو: ما يتضح جليًّا في الموقف الأمريكي بالضغط على كلِّ من: مصر والسودان؛ خاصة مع تباين المواقف بينهما وبين الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من القضايا؛ فعلي الصعيد السوداني تسعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط على الحكومة السودانية من أجل تحييد الموقف الروسي الصيني في المنطقة ومنع روسيا من إقامة قاعدة عسكرية لها في السودان خاصة في ظل مساعي إنشاء منطقة لوجيستية روسية لها في السودان من أجل دعم قواتها الموجودة في إفريقيا الوسطي من ناحية وضمان التواجد في منطقة باب المندب والبحر الأحمر من ناحية أخرى.

أما على الجانب المصري فتسعي الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على مصر في قضية المياه والتي تمثل شريان الحياة بالنسبة لها من أجل إجبارها على الموافقة على قضايا أخرى؛ مثل: القضية الفلسطينية والتي تسعي الولايات المتحدة لمساعدة حليفتها إسرائيل(7).

تداعيات التصديق على عنتيبي:

وسيكون لدخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، تداعيات عديدة:

1_ الانتقال من مبادرة حوض النيل إلى مفوضية حوض النيل: الانتقال من مبادرة حوض النيل، وهي ترتيب انتقالي، إلى مفوضية حوض النيل، وهي مفوضية دائمة تشرف على تنفيذ الاتفاقية.

2_ إنهاء فكرة الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر: وسيكون الحديث بدلًا من ذلك عن مبدأ الاستخدام العادل “المنصف” والمعقول.

3_ تطوير إجراءات الإخطارات التفصيلية: إنشاء مبادئ توجيهية لتبادل البيانات، وتقييمات الأثر البيئي، وحل النزاعات.

4_ إمكانية تصديق دول أخرى: تلعب إثيوبيا دورًا في ذلك عبر عدد من المشاريع الإقليمية.

5_ إمكانية انضمام السودان للاتفاقية: السودان مستفيد أيضًا من سد النهضة، والتقارب الأخير بين إثيوبيا والبرهان قد يؤدي إلى إمكانية انضمام السودان لهذه الاتفاقية مستقبلًا.

6_ تأكيد الهيمنة الإثيوبية في منطقة حوض النيل على حساب مصر: استمرار اتباعها سياسة الأمر الواقع، وعدم التشاور في استكمال عملية الملء والتشغيل الخاصة بسد النهضة.

7_ حصول المفوضية الجديدة على المشروعية القانونية الدولية: إمكانية الحصول على التمويل الدولي للمشاريع المشتركة(8).

السيناريوهات المتوقعة بعد تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي:

1. التحفظات المصرية على اتفاقية عنتيبي:

   – مصر تتحفظ على الاتفاقية بسبب الخلافات مع دول المنبع؛ خاصة إثيوبيا، حول الحقوق المكتسبة والاتفاقيات التاريخية (1902، 1929، 1959).

   – مصر حاولت تقديم اقتراحات جديدة؛ مثل: مفهوم “الأمن المائي” كبديل عن الحقوق المكتسبة، لكنها فشلت في إقناع دول المنبع.

2. الحقوق المكتسبة والاتفاقيات التاريخية:

   – مصر والسودان يطالبان بعدم تعارض الاتفاقية الجديدة مع الاتفاقيات السابقة.

   – الاتفاقية تعتمد على مبدأ “الاستخدام العادل والمنصف” لمياه نهر النيل كبديل عن الحقوق التاريخية.

3. مفهوم الأمن المائي:

   – مفهوم جديد طرحه البنك الدولي كبديل عن الاتفاقيات السابقة.

   – الخلاف بين دول المنبع والمصب يتعلق بحجم الضرر الممكن، وهل هو ضرر بسيط أم جسيم؟

4. شرط الإخطار المسبق:

   – مصر تصر على ضرورة تضمين هذا الشرط الذي كان موجودًا في الاتفاقيات السابقة.

   – دول المنبع ترفض هذا الشرط، وتمت الإشارة إليه بصورة غير مباشرة في الاتفاقية.

5. التباين المصري – الإثيوبي:

   – الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول تعريف حوض النيل: مجرى الحوض أم مجرى النهر.

   – دول المصب مثل مصر تفضل تعريف “مجرى الحوض”؛ لأنه يشمل موارد مائية أوسع.

6. مبدأ الاستخدام العادل والمنصف:

   – الاتفاقية تتبني مبدأ “الاستخدام العادل والمنصف” لمياه نهر النيل.

   – تُستخدم المعايير الجغرافية والهيدرولوجية والاجتماعية والاقتصادية لتحديد هذا الاستخدام.

7. تأثير الاتفاقية على مصر:

   – من المحتمل أن تساهم الاتفاقية في إعادة توزيع الحصص المائية بطريقة تضر بمصر.

   – مصر تعتمد بشكل كبير على مياه نهر النيل وليس لديها بدائل مائية أخرى (9).

مستقبل الأمن المائي المصري:

لم يعُدْ سد النهضة فحسب هو المهدد لأمن واستقرار مصر مائيًّا، بل دخول مثل اتفاقية الإطار القانوني والمؤسسي “عنتيبي” حيِّزَ النَّفَاذ سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ على مصر؛ نظرًا لأن كل دولة عضو في هذا الاتفاق ربما تقوم بتدشين مشروعات على مجرى نهر النيل، قد يكون تأثيرها على مصر بدرجة لا تقل خطورةً عن سد النهضة، ولا يخفي على أحدٍ أنه إذا أقدمت أي دولة على مثل هذه الخطوة، فيرجح بشكلٍ كبيرٍ أن يكون وراءها أطراف خارجية، من مصلحتها التضييق على مصر والإضرار بها، هذا الأمر حال حدوثه يحتمل أن يتسبب في تهديد مستقبل أمن مصر المائي، وهو ما إذا تحقَّق ستكون عواقبه وخيمة.

إلا أن القيادة المصرية الحكيمة تدرك جيِّدًا المخططات والمؤامرات التي تُدبر ضد مصر، ولن تتهاون أو تتغافل عن أيِّ محاولة من شأنها الجوْر على حصتها التاريخية من مياه النيل، أو المساس بأمنها القومي ومستقبل شعبها، ولكنها تحتفظ بخيارات الرَّدِّ وفْقًا لدبلوماسيتها المتوازنة التي يشهد لها التاريخ على حيادها وعدم الجوْر على حقوق دولة أخرى، أو حتى التدخُّل في شؤونها، بل باسترجاع السِّجَال التاريخي لها يُلاحظ دورها الفعَّال المشهود لها في العديد من الأزمات، سواء في أفريقيا أو خارجها، فلم تدخر جهْدًا لإغاثة المنكوبين، ولكن قُوبِلَت هذه المساعي الحميدة بصفعةٍ غير متوقعة من قِبَلِ من لم تتخلَّ عن دعمهم أو مساندتهم في أزماتهم المختلفة على مرِّ التاريخ.

الخلاصة:

يأتي تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي في هذا التوقيت ليحمل دلالات سياسية واقتصادية وإستراتيجية متعددة، ففي الوقت الذي تسعي فيه جوبا لتأكيد استقلالها السياسي وتعزيز علاقاتها مع دول المنبع، تواجه تحديات اقتصادية وأمنية تدفعها للبحث عن شركاء جدد ومصادر تمويل إضافية.

إن هذا التحرك قد يعيد تشكيل ديناميات المنطقة ويؤثر على موازين القوى بين دول حوض النيل، مما يجعل من الضروري متابعة تطورات هذا الملف بعناية، وكذلك يحتاج هذه الملف إلى تعاون مصري سوداني مشترك للتعامل مع تلك القضية الحيوية واستخدام كافة الأساليب الدبلوماسية والسياسية والقانونية لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد حياة أكثر من 150 مليون شخص، وكذلك وقف سيناريو نشوب حرب على المياه بين دولتي المصب، ودول المنابع، حال عدم التوصل لاتفاق قانوني مرضي لجميع الأطراف.

كذلك فإن من الممكن أن ما آلت إليه الأمور باتفاقية عنتيبي للدخول حيِّز النفاذ قد لا يكون محمود عُقْبَاه، لا سيما في ظل حالة الاختراقات المتكررة لقواعد القانون الدولي المتعلقة بالمياه، وبالتالي قد يحدث مناوشات واضطرابات في مستوى العلاقات بين دول المنبع، ودول المصبِّ؛ حال اتخاذ خطوات لا تضع في الحُسْبَانِ حقوق الأخيرة، وقد تتدخل أطراف ومنظمات دولية تُعرقل مساعي التنفيذ، أو على الأقل تضمن عدم الجور على حِصَصِ دولتيْ المصب في مياه النيل، وربما يطُول أَمَدُ هذه العملية وتتوقف مؤقتًا.

وقد تتحول المحنة إلى مِنْحة، وتفتح هذه المعضلة الباب أمام مصر للتوسُّع في مستوى العلاقات بينها وبين دول الحوض، والتوصُّل إلى بعض الموائمات التي تضمن حقوق مصر، بل وتشكيل جبهة تُمكِّنُها من الضغط مستقبلًا على أديس أبابا؛ لمراجعة سياساتها إزاء مصر، والتوقُّف عن استفزازها لها، بصفةٍ خاصَّةٍ، فقد تجاوزت كافَّة الخطوط الحمراء.

وأخيرًا -وليس آخرًا-: مصر لن ترضخ لهذه المحاولات الهزلية، ولن تتهاون في حقوقها شعبها، أو تهديد أمنها المائي بأيِّ شكْلٍ من الأشكال.

المصادر:

1_ مركز دراسات الوحدة العربية

2_ المركز المصري للفكر والدراسات

3_ المصري اليوم

4_ مقاتل الصحراء

5_ البيان

6_الشرق الأوسط

7_ مركز رع للدراسات

8_ الجزيرة

9_ الرابطة الدولية للخبراء والسياسيين

10_ شاف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.