fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

الدور الروسي في ليبيا محاولة للفهم

108

الدور الروسي في ليبيا محاولة للفهم

 

فلا يخفى على أحدٍ دور الاتحاد السوفييتي في السابق، وأنه قد تراجع تراجعًا كبيرًا على الصعيد الدولي؛ نتيجة الأحداث التي صنعتها لها الولايات المتحدة الأمريكية، ومِن ثَمَّ تراجع التأثير الروسي على السياسة الدولية، وتضاءل اهتمامها بالقواعد العسكرية والقوة الروسية في الساحة الدولية، وذلك مقابل التركيز على الوضع الداخلي المتهالك، وخاصة فيما يتعلق بالانهيار الاقتصادي بعد سقوط منظومة الاتحاد السوفيت.

ومع استلام فتى المخابرات الروسية فلاديمير بوتين مقاليد الحكم، أعاد ترتيب الاولويات الروسية، وشمل ذلك وضع إستراتيجية واضحة لتنمية الاقتصاد اعتمادًا على موارد الطاقة، وإعادة تموضع روسيا كقوة عالمية في الساحة الدولية، والنظام الدولي.

وقد كان ذلك واضحًا من التدخل الروسي في سوريا، ومساندة النظام السوري في إعادة السيطرة على قسم كبير من المساحات التي خسرها لصالح المعارضة السورية، ثم التدخل الروسي في أوكرانيا واحتلال جزيرة القرم، ثم التدخل مؤخرًا في الصراع الليبي عسكريًّا وسياسيًّا، ودعمها لخليفة حفتر ونجل العقيد القذافي سيف الإسلام ضد الحكومة الشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ويندرج هذا التدخل باعتبار ليبيا منطقة نفوذ روسي قديم منذ حقبة الاتحاد السوفيتي، وهذا التدخل قد يمنح الروس مكاسب سياسية، وجيو سياسية، واقتصادية.

التدخل الدولي في الشؤون الليبية:

لعبت القوى الإقليمية والدولية منذ الأيام الأولى لثورة السابع عشر من فبراير دورًا فعَّالًا في المشهد الليبي، وتراوحت أدوار هذه القوى وعمق انخراطها حسب تطلعات وأهداف كل منها، فشهدت الساحة تراجعًا ملحوظًا لدور القوى الدولية بعد أن لعبت دورًا محوريًّا في عملية إسقاط القذافي، بينما لعبت الدول الإقليمية والعربية دورًا أكثر فاعلية في مرحلة ما بعد سقوط القذافي، وكان لدولتي: الإمارات العربية المتحدة وقطر الحضور الأبرز عبر الدعم المادي لطرفي النزاع في الصراع الأهلي؛ إلا أن دولة الإمارات تفوقت في تنوع الدعم وكثافته حيث تجاوز دعمها لحليفها الأبرز اللواء خليفة حفتر الإمداد بالسلاح والدعم السياسي إلى إنشاء قواعد عسكرية والتزويد بالطائرات الحديثة والمقاتلين والخبراء الأجانب، وفتح قنوات اتصال دولي مع حلفائها الدوليين، ثم برز الدور المصري في أواخر 2013، وظهر بوضوح في منتصف عام 2014، وجاء على شكل دعم لوجستي وفني وأمني.

وقد شكَّل تدخل هذه الدول ديناميكيات الصراع الليبي، فالصراع الأهلي تغذى بدرجة كبيرة على الدعم والتوجيه الخارجي؛ إلا أن التدخل الدولي اتسم بالفوضوية والازدواجية هذه المرة، فعلى عكس التدخل الدولي في عام 2011.

بداية التدخل الروسي:

إغفال القوى الدولية التي ساهمت في إسقاط القذافي للمشهد الليبي منذ عام 2011 حتى 2015، وفقدان بعثة الأمم المتحدة مصداقيتها وحيادها وبعد ثبوت فساد مبعوثها برناردينو ليون وفشلها في تنفيذ مهمتها، أفقد هذه الأطراف جزءًا كبيرًا من تأثيرها على مسار الأحداث على الأرض، ومع فشل المسار السياسي وتفاقم الانتهاكات الدولية لحظر التسليح، فتح المجال لروسيا لتكون طرفًا مؤثرًا في الصراع الدائر بعد أن أُبعدت عن الملف الليبي عقب التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي في عام 2011، وعلى عكس فرنسا التي كانت خجولة في دعمها لحفتر فقد صعدت روسيا من وتيرة دعمها له، ووثقت علاقتها معه بشكل علني عبر الزيارات وفتح قنوات التواصل ودعوته لموسكو والظهور معه إعلاميًّا، كما عززت وجودها على الأرض عبر الشركات الأمنية وتقديم الخدمات والاستشارات العسكرية؛ إلا أن موسكو في مقاربتها هذه لم تتبنَّ موقفا أيدولوجيًّا، فقد حافظت على علاقاتها مع مناوئي حفتر في حكومة الوفاق وأكَّدت اعترافها باتفاق الصخيرات ومخرجاته على لسان لافروف ونائبه بوغدانوف، كما حافظت على قنوات تواصل غير رسمية مع أزلام النظام السابق عبر مجموعة فاغنر التي بلغ انخراطها في المشهد الليبي مستويات عميقة تتجاوز العمل العسكري والأمني حيث تساهم في إدارة حملات إعلامية لصالح حفتر وسيف الإسلام القذافي، كما تساهم بتوجيه وسائل إعلام ليبية حيث تمتلك حصصا تبلغ 50% في قنوات أنصار النظام السابق.

وفي ظل غياب دور واضح وفعال للولايات المتحدة لم يواجه الدور الروسي مجابهة قوية من القوى الغربية في بادئ الأمر بل لقي ترحيبًا من الولايات المتحدة على لسان قائد قوات الأفريكوم “توماس والدهاوسر”، في حين حذَّرت بريطانيا من الدور الروسي على لسان وزير دفاعها السابق مايكل فالون في 2017عام، وقدَّمت لاحقًا في فبراير 2019 مشروعًا في مجلس الأمن يطالب بسحب مرتزقة فاغنر من ليبيا، ومع مُضي الوقت وتمدد النفوذ الروسي على الأرض تصاعدت حدة التصريحات الأمريكية حول الدور الروسي تدريجيًّا، وبعد أن استغلت موسكو حملة حفتر العسكرية على حكومة الوفاق بطرابلس في تعزيز حضورها في المشهد عبر مجموعة فاغنر الروسية وعبر تزويدها بمنظومات دفاع جوي وطائرات حربية أرسلت عبر سوريا إلى قاعدة الجفرة الجوية حسب ما أعلنت قيادة الأفريكوم في تقريرها المنشور في 18 يونيو 2020.

وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 22 سبتمبر 2020 في تغريدة له على منصة تويتر عن استهداف الولايات المتحدة لمجموعة من فاغنر في ليبيا، حيث قال: “استهدفت الولايات المتحدة شبكة مرتبطة بالعميل الروسي يفغيني بريغوجين تعمل على تعزيز النفوذ الروسي الخبيث في جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا؛ إلا أن هذا الاستهداف الباهت لم يغير شيئًا في المعادلة العسكرية على الأرض، حيث لا زالت مجموعة فاغنر تحافظ على مواقعها في خط سرت – الجفرة وفي قاعدة الخادم الإماراتية، كما أنها لا زالت حاضرة بقوة في محيط أهم حقول النفط الليبية”(1).

معالم الدور الروسي في ليبيا:

أشار أساييف أستاذ مشارك في الجامعة الوطنية بروسيا، والباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط إلى أن روسيا تسعى لتحقيق توازن في علاقاتها بين الفاعلين الإقليمين والدوليين المؤثرين في الأزمة الليبية، كما أنها تسعى لتحقيق توازن بين أجندتها السياسية ومواردها المحدودة، وهي السياسة الحاكمة لموسكو في ليبيا.

وقال أساييف: إن معالم الدور الروسي في ليبيا، تتحدد وَفْقًا لآفاق عدة، أبرزها ما يلي:

  1. 1. اختلافات بين الدوائر المؤثرة في صنع القرار: أشار أساييف إلى أنه من الخطأ اعتبار روسيا داعمًا للجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر، أو لحكومة الوفاق الليبية. وأشار إلى أن الدوائر الحكومية الروسية المختلفة تدعم وتتواصل مع أطراف مختلفة في الأزمة، حيث يميل وزير الدفاع الروسي للتعاون مع حفتر، بينما يركِّز وزير الخارجية الروسي على العلاقات مع حكومة الوفاق الليبية، كما أشار إلى أن بوتين شخصيًّا يميل بعض الأحيان لطرف آخر ثم يعيد تغيير حساباته.
  2. 2. تصاعد عدم الاستقرار في الشرق الأوسط: تتبع روسيا سياسة برجماتية تتعاون من خلالها مع الأطراف كافة بغض النظر عن اختلافاتهم. وأضاف أساييف: إن روسيا تحاول تجنب أخطائها في الأزمة السورية؛ ولذلك توازن بين أطراف الأزمة الليبية كافة.
  3. 3. موارد مادية محدودة: تسعى موسكو لتجنب نهج تصعيدي للأزمة، وهو ما أدى إلى تواصل موسكو مع أنقرة للتوصل إلى حل وسط للأزمة الليبية، حيث إن التصعيد سيتسبب في المزيد من المخاطر، كما أن روسيا مقتنعة بأنها لن تكون الوسيط الوحيد في الأزمة الليبية. وأضاف أساييف: إن روسيا تسعى لتوظيف الملف الليبي كورقة تفاوضية في علاقاتها مع فرنسا وألمانيا، بينما ترفض الولايات المتحدة الدخول في محادثات مع روسيا على الرغم من دعوات الكرملين لواشنطن في هذا الإطار.

الدور الروسي في ليبيا محاولة للفهم

أكَّد أساييف أن المصالح الروسية في ليبيا تنحصر في المصالح الثلاث التالية:

  1. 1. الشركات العسكرية الخاصة: قال أساييف: إن الشركات العسكرية الخاصة الروسية كان لها دور بارز في الأزمة السورية، واستطاعت أن تحصل على عقودٍ أمنيةٍ مع الحكومة السورية لتأمين مناطق ومرافق حيوية، وهو ما تسعى الشركات إلى تكراره مرة أخرى في ليبيا، حتى في مرحلة ما بعد الصراع.
  2. 2. ورقة ضغط في العلاقات مع أوروبا: لم تكن الأزمة الليبية محل اهتمام من جانب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بل إن الوجود الأميركي في ليبيا هو فقط بسبب المؤسسات العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتخوف من تصاعد الدور الروسي هناك، وعلى النقيض، تمثِّل ليبيا ورقة ضغط تستخدمها روسيا في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا وألمانيا.
  3. 3. الغاز: قال أساييف: إن روسيا لا تريد فائزًا وحيدًا في الصراع الليبي، فمن ناحية هي لا تريد أن تسيطر حكومة الوفاق الليبية على الهلال النفطي، وعلى صعيد آخر: لا تريد أن يسيطر حفتر على طرابلس؛ ولذلك عندما كان حفتر على أبواب طرابلس، خفضت روسيا دعمها لحفتر مما مهَّد الطريق للتدخل التركي في الأزمة. وأضاف أساييف: إن اتفاق ترسيم الحدود بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية يعد في مصلحة روسيا على الأقل في المدى القصير والمتوسط.

وأشار أساييف إلى: أن روسيا تدرك أن شرعية الاتفاق محل شك، ولكن إثارة مثل هذا النزاع حول كيفية تقسيم ثروات شرق المتوسط تصب في مصلحة روسيا، حيث إن موسكو تريد توريد الغاز من روسيا إلى تركيا ثم إلى أوروبا؛ ولذلك فإن غاز شرق المتوسط يعد المنافس لخطة روسيا؛ ولذلك فإن العراقيل القانونية التي تفرضها الاتفاقية تجعل روسيا تستفيد في تصدير الغاز.

وعلى النقيض: أشار أساييف إلى أنه على المدى البعيد يعد الغاز القطري منافسًا لروسيا، خاصة في شرق أوروبا؛ ولذلك تسعي للحفاظ على تفاهماتها مع تركيا؛ لضمان مواصلة إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر تركيا(2).

العناصر الروسية في ليبيا:

تشير بعض التقديرات إلى أن حجم هذا التدخُّل الروسي في ليبيا يبلغ حولي ١٥٠٠ عنصر من مجموعة فانغر التي تعتبر بمنزلة النسخة الروسية من بلاك ووتر الأميركية.

ويثير التدّخل الروسي في ليبيا مؤخرًا مخاوف من إمكانية أن يؤدي إلى تغيير المعادلة القائمة هناك لصالح الجنرال خليفة حفتر؛ بالإضافة الى إمكانية زيادة العنف بشكل يؤدي الى تصاعد عدد الضحايا بين المدنيين ودول ليبيا في دوامة جديدة من العنف قبل أن تحسم موسكو الأمر لصالح حفتر.

وتنكر روسيا انخراطها رسميا في ليبيا، لكن أحد أهم أسباب رواج عمل المرتزقة الروس على الصعيد الدولي هو أنّهم يمنحون الحكومة الروسية القدرة على إنكار وجود دور لها، ولكنّهم يوفّرون لروسيا في نفس الوقت القدرة على تحقيق نفوذ مباشر لصالحها.

وباستثناء مناكفة الأميركيين ومحاولة توسيع دائرة النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، من غير الواضح ما هي مصالح روسيا في دعم حفتر؟ هناك مَن يشير إلى إمكانية أن يكون موضوع الإسلاميين الذي يروّج له حفتر وداعميه عنصرًا في المعادلة، فيما يشير آخرون أن الأمر يتعلَّق بالمال فقط، وطالما أن هناك مَن يدفع فلا مشكل للمرتزقة بالعمل.

وجود المرتزقة الروس على المسرح الليبي يشير حقيقةً إلى أمرين فيما يتعلق بالوضع داخل ليبيا: الأول: هو أنّ قوات حفتر تفتقر إلى القدرات الذاتية لتحقيق أي خرق حاسم ضد العاصمة طرابلس وقوات حكومة الوفاق الوطني.

والثاني: أنّ هناك جهود متجدّدة لداعمي حفتر الإقليمي لحسم الموضوع عسكريًّا من خلال الاعتماد على المرتزقة الروس. هناك مَن يشير إلى أن النموذج الروسي في الحسم العسكري أصبح مرغوبًا من قِبَل الديكتاتوريين حول العالم، وهناك نماذج تتكرر الآن في المنطقة مِن بينها نموذج سوريا، وهو ما يشجِّع الديكتاتوريين العرب على تجربة النموذج الروسي في أماكن أخرى، مِن بينها: ليبيا.

لكن في المقابل: هناك مَن يرى أنّ الوضع في ليبيا مختلف، وأنّ موسكو لا تمتلك قواعد عسكرية هناك، ومصالحها غير واضحة أو محددة بعد، وأنّ هدف موسكو هناك ربما جعل الحرب تمتد بحيث تستنزف طرفي المعركة، وتمنع الحل السياسي بحيث يشكّل ذلك أيضًا لاحقًا تهديدًا أمنيًّا لمنطقة جنوب أوروبا.

مع ذلك يستدرج التدخل الروسي تدخلًا مضادًّا، وإن كان القرار و/ أو الدور الأميركي في صد التمدد الروسي في ليبيا غير واضح بعد، فان تركيا كانت قد أعلنت بشكل واثق عن نيتها تقديم الدعم العسكري لإنقاذ ليبيا في حال قررت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا بقيادة السراج تقديم طلب إلى أنقرة بهذا الخصوص؛ سيما وأنّ الحظر الدولي على أطراف الصراع لا يتحدث على ما ينص صراحة على عدم جواز حصول الحكومة الشرعية في ليبيا على دعم مباشر وَفْق القراءة التركية(3).

الدور الروسي في ليبيا محاولة للفهم

في ضوء المعطيات الحالية، تمتلك روسيا ثلاث خيارات رئيسية لتدخلها العسكري في ليبيا على المدى المتوسط:

الخيار الأول:

استمرار الاعتماد على قوات فاغنر، وتوظيف الميليشيات التي تقاتل إلى جانب نظام الأسد في سوريا، وأرسالهم للقتال إلى جانب حفتر، وبعد سيطرة روسيا على مساحات واسعة من سوريا، أصبحت لديها قدرة أكبر لإرسال قوات اضافية.

الخيار الثاني:

الإستعانة بـ“القوات الشيشانية الخاصة”، وهذا الخيار لم يتم استخدامه في سوريا، إذ يتمتع إقليم الشيشان في جنوب روسيا ذي الأغلبية المسلمة بجهاز عسكري متطور يصل عدد أفراده إلى 30 ألف جندي، والعديد منهم مدربون تدريبًا عاليًا، وهذه القوات تحت سلطة مباشرة للزعيم الشيشاني الذي عينه بوتين، “رمضان قديروف”، في حين أن قديروف نفسه قد سبق أن حرَّض مرارًا وتكرارًا على نشر القوات الشيشانية في سوريا لمطاردة الجهاديين الشيشان، ولم يتم قبول طلبه سابقًا، لكن تم الموافقة على إرسال الشرطة العسكرية الشيشانية في دور غير قتالي.

والخيار الثالث:

شن غارات جوية مباشرة في ليبيا، وهذا سيكون تصعيدًا كبيرًا ومباشرًا من جانب موسكو، وسيؤدي إلى مواجهة مباشرة مع الأتراك في ليبيا (وهو الأمر الذي تجنبه البلدان في الحالة السورية)، علمًا بأن الضربات الجوية الروسية المباشرة هي التي قلبت المقاييس في سوريا.

المصالح الاقتصادية الروسية في ليبيا:

العامل الاقتصادي هو من الأسباب الرئيسية للدعم الروسي لقوات حفتر حيث ترتبط روسيا بليبيا بتاريخ طويل من المصالح الاقتصادية؛ ففي عام 2008، ذهب فلاديمير بوتين إلى حد إعفاء ديون ليبيا السوفييتية التي تبلغ حوالي 4.5 مليار دولار، مقابل شراء أسلحة روسية بقيمة 3 مليار دولار. كما وقعت شركة السكك الحديدية الروسية، وحكومة القذافي عقدًا بقيمة 2.6 مليار دولار لبناء خط سكة حديد بطول 550 كيلومترًا بين سرت وبنغازي. وكانت ممكن أن تستفيد موسكو أيضًا من 150 مليون دولار في مشاريع البناء؛ بالإضافة إلى ما يقدر بـ 3.5 مليار دولار في صفقات قطاع الطاقة. وكنتيجة مباشرة للانتفاضة الليبية في عام 2011، انسحبت روسيا من ليبيا، وخسرت عقودًا تقدر قيمتها بنحو تسعة إلى عشرة مليارات دولار.

وحاليًا فإن الشركات الروسية الكبرى، ومعظمها من قطاع النفط والغاز، مثل: “تاتنفت”، مهتمة بالعودة إلى السوق الليبي.

وتعطي روسيا اهتمامًا أكثر لليبيا كونها تمتلك 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، وهو الأكبر في إفريقيا والعاشر عالميًّا. وليبيا مع موانئها ومحطاتها النفطية كانت على مدى عقود المصدر الرئيسي للطاقة إلى: إيطاليا، وجنوب فرنسا، وبلدان أخرى في جنوب أوروبا؛ لأن تكلفة استخراج البترول في ليبيا وتوصيله إلى الأسواق الأوروبية منخفضة مقارنة بمصادر أخرى؛ مما يجعل ليبيا أحد المنافسين لروسيا في السوق الأوروبية.

وعلاوة على ذلك: كلما توقفت ليبيا عن إنتاج النفط، ترتفع الأسعار العالمية؛ مما يعود بالمصلحة على الروس بشكلٍ غير مباشرٍ.

وتأمل موسكو في لعب دور متزايد في الاقتصاد الليبي، ونظام الرعاية الصحية، والبرامج التعليمية، ففي عهد معمر القذافي وقَّعت الشركات الروسية اتفاقية مع الحكومة لإنشاء نظام متكامل للخدمات الطبية والتشخيص والعلاج عن بعد باستخدام أنظمة الاتصالات الحديثة.

أما بالنسبة للتعليم: فقد أعلنت الحكومة الروسية العام الماضي أنها تهدف إلى تسجيل 710 آلاف طالب أجنبي من دول مختلفة في الجامعات الروسية بحلول عام 2025، مقارنة بـ 220.000 في عام 2017، ويشمل ذلك استيعاب طلاب الليبيين في روسيا، واعتمادًا على تطورات الوضع الأمني، قد تفتح بعض الجامعات الروسية فروعًا في ليبيا.

ولدى موسكو قناعة بأن التعاون في مجال الرعاية الصحية والتعليم يمكن أن يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها طويلة المدى في شمال إفريقيا.

الوجود الروسي في ليبيا يمنحها نفوذًا على أوروبا:

ليبيا هي دولة صحراوية يسكنها 6.5 مليون نسمة، وتقع في الجزء الأوسط من شمال إفريقيا، تبعد حوالي 390 ميلاً بحريًّا من مالطا، و 486 ميلًا بحريًّا عن جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا. ولها آلاف الكيلومترات من الحدود المشتركة يسهِّل عبورها مع الدول الإفريقية المجاورة: (للجزائر، ومصر، وتشاد، والنيجر، والسودان، وتونس)؛ لذا فإن تأثير ليبيا على التطورات خارج حدودها وداخلها مهم جدًّا، فموقع ليبيا الرئيسي يضعها على مفترق طرق الساحل في جنوب أوروبا وشمال إفريقيا.

وكما هو الحال في مناطق الصراع الأخرى، لا يبدو أن موسكو مهتمة بالتوصل إلى اتفاق سلام في ليبيا، طالما أنها تستطيع أن تتفوق على الغرب بشكل إستراتيجي، مع ضمان الوصول إلى الموانئ والطاقة.

ومن الناحية التاريخية: كان الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​ذات أهمية كبيرة لصانع القرار الروسي، كجزءٍ مِن تعزيز حضورهم كقوة عظمى في النظام العالمية، فخلال مؤتمر بوتسدام لعام 1945، حاول جوزيف ستالين دون جدوى المطالبة بالوصاية على مقاطعة طرابلس في ليبيا، وعلى الرغم من فشل محاولة ستالين؛ إلا أنه في سبعينيات القرن الماضي انفتح معمر القذافي على موسكو، التي وفَّرت له آلاف المستشارين العسكريين، وكميات ضخمة من المعدات العسكرية؛ لتعزيز أنشطته بما في ذلك بناء قواعد صاروخية.

إن الحضور الروسي في ليبيا سيكسبهم نفوذًا كبيرًا على أوروبا على المدى الطويل، وسيتحكم الروس بملفين إستراتيجيين بالنسبة للأوروبيين: الأول: ملف الطاقة. والثاني: ملف اللاجئين، الذي لا يزال مصدر قلق كبير لكثيرٍ من الأوروبيين؛ مما يعني أن أي أزمة أخرى للاجئين تنبثق من ليبيا يمكن أن تعيد التوترات، وتعزز من تصاعد اليمين المتشدد، ويزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي الهش بالفعل.

وسيكون بإمكان الروس الضغط على دول الاتحاد الأوروبي من خلال هذين الملفين لتحقيق مكاسب فيما يخص قضايا انتشار الصواريخ في دول أوروبا الشرقية، وملف احتلال جزيرة القرم، والدفع من أجل إنهاء العقوبات المفروضة عليهم.

ومن ناحية أخرى: ستستغل روسيا إخفاقات الأوروبيين في ليبيا، وتباين سياساتهم في الملف الليبي؛ كون فرنسا تدعم حفتر، بينما إيطاليا تدعم حكومة الوفاق سياسيًّا، وألمانيا تدعم الحل السياسي وعملية تسوية سياسية.

وهكذا تصبح روسيا أكثر تأثيرًا على الملف الليبي بحكم تشتت الدول الاوروبية المجاورة ليبيا، ويبدو أن الروس حريصون على إرسال رسالة للأوربيين والأمريكيين من بعد تدخلهم في ليبيا، مفادها: أن الروس لن يتوقفوا عند سوريا وأوكرانيا، وأن نجاحهم “في سوريا ليس مصادفة.

التدخل الروسي في ليبيا مقدِّمة للتمدد إلى القارة الإفريقية:

في أواخر عام 2018، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون عن إستراتيجية أمريكية جديدة تهدف إلى مواجهة كلٍّ مِن: الصين وروسيا في إفريقيا بعد أن بات واضحًا أن موسكو تريد زيادة وجودها في إفريقيا، بعد تصريح الرئيس فلاديمير بوتين حين قال: ”إن إفريقيا هي إحدى أولويات السياسة الخارجية لروسيا، وتحدث عن الدعم السياسي والدبلوماسي، وعن مساعدات الدفاع والأمن، والمساعدة الاقتصادية للدول الأفريقية”.

وخلال الأعوام من 2014- 2019، شكَّلت القارة الإفريقية، باستثناء مصر 16٪ من صادرات الأسلحة الروسية، وَفْقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام(SIPRI) .

وبين 2017-2018، كانت لروسيا صفقات أسلحة مع: أنغولا، ونيجيريا، والسودان، ومالي، وبوركينا فاسو، وغينيا الاستوائية. وشملت تلك الصفقات: الطائرات المقاتلة، وطائرات الهليكوبتر المقاتلة والنقل، والصواريخ المضادة للدبابات، ومحركات الطائرات المقاتلة.

دوافع روسيا الاقتصادية واضحة للدخول إلى إفريقيا؛ إذ لديها نقص في بعض المعادن، مثل: المنغنيز، والبوكسيت، والكروم، وكلها مهمة للصناعات الروسية، كما أن لدى روسيا خبرة في قطاع الطاقة يمكن أن تقدمه للدول الغنية بالبترول في إفريقيا.

وتفيد التقارير: أن شركة لوك أويل العاملة في قطاع الطاقة لديها مشاريع في الكاميرون، وغانا، ونيجيريا، وتتطلع إلى الاستحواذ على حصة في جمهورية الكونغو. وتعرض روسيا أيضًا تكنولوجيا الطاقة النووية للعديد من البلدان الإفريقية، بما في ذلك بناء أول محطة نووية في مصر، بتمويل قرض بقيمة 25 مليار دولار؛ لذلك تسعى روسيا لأن تكون جزءًا من المعادلة في ليبيا، وتثبيت قواعد عسكرية لها على سواحلها، لتكون نقطة انطلاق روسية إلى العمق الإفريقي، وحجر أساس لحماية مصالحها.

روسيا أكثر قوة في الشرق الأوسط عبر دعم قوات حفتر:

إن السياسة الأمريكية المترددة تجاه الشرق الأوسط في عهد الرئيس أوباما، وتأييد الروس لقوات حفتر، أفسح المجال لموسكو لتأسيس علاقات دبلوماسية جيدة مع السعودية والإمارات.

وبالنظر إلى ذلك يمكن القول: إنه كان مِن الصعب قبل وصول أوباما للحكم في أمريكا، ووقوف روسيا إلى جانب حفتر في ليبيا تصور تحسن في العلاقات الروسية والسعودية، والتي تطورت من خلال زيارة بوتين للسعودية، وعقد العديد من الاتفاقيات الاقتصادية.

كان بوتين قد قام بزيارته الرسمية الأولى إلى السعودية في فبراير/ شباط 2007، وكانت الأولى لرئيس روسي إلى شبه الجزيرة العربية، وفي عام 2017، قام الملك سلمان بأول زيارة له لروسيا. وفي عام 2019 زار بوتين السعودية، وترأس مع الملك سلمان مراسم التوقيع على سلسلة من المشاريع بمليارات الدولارات، من عقود الاستثمار بين البلدين، تستهدف قطاعات، مثل: الطيران، الثقافة، الصحة، والتكنولوجيا المتقدمة، حسبما أفادت وكالة فرانس برس.

وأشار بيان على موقع الكرملين خلال اجتماع مع ولي العهد محمد بن سلمان إلى: أن الصندوق السعودي العام خصص 10 مليارات دولار لمشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر المشتركة في روسيا.

وبعد السعودية زار الرئيس الروسي الإمارات العربية المتحدة في 15 أكتوبر من نفس العام، واتفق الجانبان على مجموعة من الصفقات في مجالات الطاقة، والطاقة النووية، والطيران، والبيئة، ووقَّعت شركة بترول أبو ظبي الوطنية اتفاقية مع شركة غازبروم الروسية للتطوير في الإنتاج والذكاء الاصطناعي، وتقنيات استخراج النفط من الحقول الحالية.

وقد حصلت شركة لوك أويل الروسية على امتياز الاستثمار بنسبة 5 في المائة من حقول أبو ظبي للغاز، وهذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها شركة روسية في مجال الطاقة في الإمارات، وكانت قيمة الصادرات بين البلدين في عام 2017، 2.5 مليون دولار، وفي عام 2018، ارتفعت التجارة بين الطرفين بزيادة 36%، حيث بلغت 3.5 مليار دولار.

أما مصر: فقد ارتفعت قيمة الاستيراد مع روسيا، من 1.88، مليار دولار في عام 2015، إلى 4.575 مليار دولار في عام 2019. ووَفْقًا لـ SIPRI، فقد كانت روسيا خلال الفترة بين 2014-2018 من أكبر موردي الأسلحة الى مصر، فقد وصلت نسبة الأسلحة الروسية التي استوردتها مصر من روسيا 30٪ من مجموع الصفقات المصرية للسلاح.

وأشار أحد المعلِّقين الروس بأن: “ليبيا عرضت قيمة مضافة مقارنة بسوريا من حيث أن مشاركة موسكو في شمال إفريقيا جعلتها أقرب إلى دول الخليج، وفي مقدمتها: المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وكذلك مصر”.

  المكاسب السياسية الروسية من التدخل في الملف الليبي:

سعت روسيا في بداية الأزمة الليبية لتحقيق توازن بعلاقاتها مع الحكومة الشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ومع العسكري خليفة حفتر. ومؤخرًا مالت إلى حفتر، وعلى الرغم من الدعم العسكري غير المنقطع له على مدار الحرب، ظل المسؤولون الروس على اتصال مستمر بممثلي حكومة طرابلس أيضًا. وقد أعربت موسكو في عِدَّة مناسبات عن استعدادها لدعم حكومة السراج مع الاعتراف رسميًّا بكونها السلطة الشرعية لليبيا والدعوة إلى حوار ليبي.

وتسعى روسيا لإثبات إحدى إستراتيجياتها المركزية التي أعلنتها للعالم، ولمواطنيها في السنوات الأخيرة؛ إذ قالت: إن ما تخربه الولايات المتحدة يمكن لروسيا أن تصلحه.

ويروِّج المسؤولون الروس بانتظام: أن الفوضى التي تعيشها ليبيا هي بسبب تدخل الناتو عام 2011، والذي أدانه بوتين بشدة آنذاك؛ باعتباره المثال الواقعي لعدم الاستقرار الذي تسببه التدخلات التي تقودها الولايات المتحدة. وبذلك تكون روسيا قد أثبتت أنها تستطيع تشكيل نتائج سياسية إيجابية في الخارج دون عمليات عسكرية مكلِّفة أو حملات جوية.

ومن جانب آخر: فقد انخرطت روسيا بشكلٍ منتظمٍ مع القادة الأوروبيين في عملية السلام الليبية، في سعيها لتوسيع قيادتها في مبادرات حلِّ النزاعات في منطقة الشرق الأوسط.

وتأمل روسيا أيضًا: أن ترضي مساهماتها في عملية السلام مسؤولي حكومة الوفاق الوطني، الذي وصفتها بأنها تقوم بإثارة عدم الاستقرار في ليبيا.

1_العاصمة للدراسات السياسية والمجتمعية/ الـــدور الــــروســي فــي لـيـبـيا/ يوسف لطفي

2_ مركز المستقبل للدراسات/ فهم السياسة الروسية تجاه الصراع الليبي/ ليونيد أساييف

3_ سوريا Tv/ عن طبيعة الدور الروسي في ليبيا/ علي حسين باكير

4_ مركز الأناضول للشرق الأوسط/ مقاربة التدخل الروسي في ليبيا/ المجموعة البحثية للمركز

التعليقات مغلقة.