fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

أبعاد متشابكة.. لماذا يتعثر وقف إطلاق النار في غزة؟

81

أبعاد متشابكة.. لماذا يتعثر وقف إطلاق النار في غزة؟

يشهد قطاع غزة تصعيدًا مستمرًا يُلقي بظلاله على الأوضاع الإنسانية والسياسية في المنطقة، حيث أصبحت جهود وقف إطلاق النار أكثر تعقيدًا مع مرور الوقت.

تتداخل في هذه الأزمة أطراف عديدة، من قوى إقليمية ودولية إلى فصائل محلية ذات أجندات متباينة، ويُطرح هنا سؤال محوري: لماذا تبدو مساعي التهدئة وكأنها تدور في حلقة مفرغة؟

ويتناول هذا التحليل الأزمة من زوايا متعددة لفهم تعقيداتها ودوافع الأطراف الفاعلة فيها، إضافة إلى استعراض العوائق التي تحول دون تحقيق وقف إطلاق النار.

ويأتي هذا النقاش في سياق البحث عن سبل للحد من المعاناة الإنسانية لأهلنا في فلسطين المحتلة، ووضع حد لهذا الاحتلال الغاشم وتعزيز الاستقرار الإقليمي.

كما هو الهدف من الموضوع هو تقديم رؤية شاملة للمفاوضات التي تحدث وتكون مدروسة للمشهد في غزة، مع تسليط الضوء على الأسباب السياسية والاقتصادية والإنسانية التي تعيق الوصول إلى تهدئة مستدامة.

مفاوضات لحين الانتهاء من الأجندة المحددة:

شهدت حرب غزة منذ بدايتها استخدام وسائل الإعلام كأداة لإدارة الصراع وتقديم قراءات متضاربة بشأن محادثات وقف إطلاق النار بين التفاؤل المفرط والشروط غير الواقعية من الأطراف المباشرة، وذلك على النحو التالي:

الأجواء التصعيدية:

دعت أطراف متعددة في الجانب الإسرائيلي المحتل لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وهو ما عبر عنه ليس فقط أطراف الائتلاف اليميني المتطرف، وإنما مسئولي التواصل الإعلامي لجيش الاحتلال ضمنا في الأيام الأولى للعدوان وفي مقدمتهم كبير المتحدثين العسكريين للإعلام الأجنبي ريتشارد هيشت الذي “نصح” الفلسطينيين الفارين من القصف الإسرائيلي في ١٠ أكتوبر ٢٠٢٣ بالتوجه لمصر عبر معبر رفح.

وهناك العديد من المؤشرات التي تظهر نية الجانب الإسرائيلي احتلال القطاع لمدة زمنية غير محددة؛ منها: إحياء الفعاليات الداعية للاستيطان في غزة بدعم من الائتلاف الحاكم، ورفض تسليم إدارة القطاع للسلطة الوطنية الفلسطينية التي يواصل الاحتلال مساعيه لتقويضها ودفعها للانهيار، إلى جانب الارتكازات العسكرية الثابتة والتي تكرس فصل القطاع وحصر الوجود الفلسطيني في مناطق منعزلة عن بعضها البعض، وهو ما يتم في محور نتساريم الذي شهد خلال الأشهر الخمس الماضية توسعين رئيسيين بطول ٨ كم وليبلغ إجمالي مساحته ٥٦ كم مربع، قبل الإعلان عن محور مفلاسيم في شمال القطاع والذي يستهدف بشكل أساسي كسر صمود جباليا.

تسريبات ومواقف متعارضة:

عمدت حكومة نتنياهو لإدارة حملة إعلامية استهدفت بصورة أساسية الجمهور الإسرائيلي لتبرئة ساحتها من عرقلة التوصل لصفقة شاملة أو جزئية لإطلاق سراح المحتجزين عبر عدة أنماط؛ أولها: عبر التذرع بأهداف الحرب ومنها القضاء على قدرات حماس العسكرية والسلطوية منعًا لتكرار السابع من أكتوبر، وإظهار تمسك الأخير بوقف الحرب دون تحديد شروط اليوم التالي في غزة وترك مناقشة إدارة القطاع.

وقد استخدمت حكومة نتنياهو في هذا الإطار تسريب وثائق مزورة لحماس إلى الصحافة الدولية تزعم رغبة زعيم حماس الراحل يحيى السنوار لتهريب المحتجزين إلى اليمن وإيران.

وثاني تلك الأنماط عبر عرقلة جهود الوسطاء العرب واتهامهم بالانحياز لحماس ومزاعم  تهريب الأسلحة عبر الحدود ووجود أنفاق عاملة على جانبي الحدود أو فرض بنود لم يجر التوافق عليها وهو ما تورطت فيه شبكة سي إن إن الأمريكية التي نقلت في مايو الماضي عن “مصادر” ادعاء إدخال مصر تعديلات على مقترح وقف إطلاق النار ما دفع القاهرة للتلويح بالانسحاب الكامل من جهود الوساطة التي جاءت بناءً على “مطالبات إلحاح متكررين من إسرائيل والولايات المتحدة”، وهو ذات الموقف الذي اتخذته قطر أكثر من مرة في المسار الحالي محملة الجانب الإسرائيلي بشكل رئيسي جهود عرقلة وقف إطلاق النار وآخرها ما أعلنته الخارجية القطرية في ٩ نوفمبر ٢٠٢٤ من تعليق جهودها للوساطة بعد ساعات مما نقلته وكالة رويترز عن “مسئول مطلع”، وعرضتها شاشة قناة الجزيرة بأن “قطر خلصت إلى أن مكتب حماس السياسي في الدوحة لم يعد يؤدي الغرض منه”.

على الجانب الآخر: شاركت إدارة بايدن في إدارة المفاوضات عبر الضغط على كافة الأطراف بالوسائل ذاتها؛ حيث أشاعت واشنطن أجواء تفاؤل غير واقعية بشأن “مقترح بايدن” الذي صاغته إسرائيل على حد إعلان الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته في ٣١ مايو الماضي عن اتفاق من ثلاث مراحل لإنهاء الحرب في غزة.

وبعد إجهاضها عدة محاولات لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب سعت واشنطن لتعزيز زخم التأييد الدولي للمقترح حتى قبل عرض واستكمال تفاصيله وضمنته بقرار مجلس الأمن ٢٧٣٥ في ١٠ يونيو 2024(1).

لماذا يتعثر وقف إطلاق النار في غزة إذن؟

أسباب سياسية داخلية:

مما لا شك فيه: أن أحد أبرز الأسباب في تعثر الوصول لصفقة شاملة تنهي الحرب رغبة حكومة نتنياهو في استمرار الحرب وعرقلة تشكيل لجنة تحقيق في أحداث السابع من أكتوبر برئاسة رئيس المحكمة العليا واستبدالها بلجنة تحقيق سياسي، إلى جانب نزوح الجمهور الإسرائيلي لليمين والذي يسعى لتوسيع الاستيطان وتقويض إقامة دولة فلسطينية، ولن يقبل بوقف الحرب دون انتصار حاسم متخيل إلا لسببين: أولهما: عودة المحتجزين بصفة جزئية أو بوجود انقسام مجتمعي كبير بشأن ارتفاع فاتورة خسائر الجيش والمماطلة في تجنيد الحريديم.

تضارب المصالح الدولية:

لاحق شبح ترامب ونموذجه لإدارة العلاقات مع الحلفاء عبر ما سُمي بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية” الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها وظلت عالقة منذ اللحظة الأولى وحتى الآن في تحقيق اختراق مماثل وإهمال ما تبقى من أزمات ممتدة على اتساع الإقليم حتى بدت بوادر صراع إسرائيلي إيراني تلوح في الأفق، على خلفية رغبة كلا الطرفين في إرساء توازن قوى جديد في المنطقة عبر حرب استنزاف طويلة، بينما تراوح الدور الأمريكي بين الدعم المطلق لإسرائيل، ومحاولة احتواء الطرف الإيراني عبر وسطاء إقليميين.

وعلى الساحة الأوروبية وفي ظل عدم وجود رؤية موحدة وتحرك داعم لوقف الحرب، مثلت المخاوف الأمنية عامل رئيسي في تحديد الموقف الأوروبي وقامت تلك المقاربة مواجهة التهديدات لحركة الملاحة في البحر الأحمر ودعم سلاسل الإمداد الحيوية لدول الاتحاد، ودعم أمن إسرائيل في مواجهة الصواريخ والمسيرات الإيرانية، والتي عززت من مخاوف بروكسل من توسع محتمل للتعاون العسكري والأمني بين روسيا وإيران ما قد يمثل تهديدا إضافيا للأمن الأوروبي، وهو ما قد يدفع دولا أوروبية لدعم التحركات الدبلوماسية لحل القضية الفلسطينية بالتوازي مع محاولة احتواء إيران وفصل الجبهات دون امتلاك أدوات ضغط حقيقية وفعالة لإنهاء الحرب.

وعلى الجانب الآخر: لم تبذل روسيا والصين أدوارا ملموسة لحل الصراع الذي لم يؤثر على مصالح جوهرية لكلا البلدين، فضلًا عن العلاقات المتشابكة مع مختلف الأطراف الإقليمية وعلى رأسها إيران وإسرائيل، وفي تعويل كذلك على تورط الولايات المتحدة أمنيًّا ودبلوماسيًّا في المنطقة يمنحهما مساحة أكبر للتحرك في أوكرانيا ومنطقة المحيطين.

غياب توازن الردع:

مع توسيع إسرائيل نطاق قصفها الجوي وتوغلها البري لكامل قطاع غزة وبدء العدوان على لبنان دخلت الحرب مرحلة جديدة من المواجهة الإيرانية الإسرائيلية التي أبرزت اختلال توازن القوى الإقليمي والحاجة لإقرار معادلة أمنية جديدة، وعلى مدار عام من المناوشات لم تتمكن إيران من احتواء التهديد الإسرائيلي في خطوط متقدمة بعيدة عن الحدود الإيرانية، وانخرطت تل أبيب في مناورة خطيرة لتقويض الخطر الإيرانية ليس فقط عبر القضاء على الأذرع الإقليمية، وإنما بتوجيه ضربات متتالية تضمن تفويض نفوذها الإقليمي وقدراتها من البرنامجين النووي والصاروخي، وتمثل تلك الحالة عائقًا رئيسيًّا أمام وضع حد للعدوان الإسرائيلي على غزة ارتهانًا بتحقيق أي من الشروط الثلاث؛ إيجاد تسوية شاملة في الإقليم تبدأ من لبنان، فصل الملف الفلسطيني برمته عن الصراع الإسرائيلي الإيراني بوحدة الصف الفلسطيني والعودة للحاضنة العربية، انكسار جيش الاحتلال وفرض واقع مغاير على الأرض(2).

غياب الالتزام الإسرائيلي بالعهود والمواثيق الدولية:

إسرائيل تُعرف بتجاوزاتها المستمرة للاتفاقيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة. تتسم سياساتها بالتناقض حيث تتعهد بوقف إطلاق النار في المحافل الدولية، بينما تُصعَّد عسكريًّا على الأرض.

ومن أمثلة ذلك:

1. استمرار الحصار على غزة: منذ عام 2007، فرضت إسرائيل حصارًا خانقًا على القطاع، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية والإنسانية بشكل غير مسبوق.

2. الانتهاكات اليومية للهدن المؤقتة: في كل مرة تُعقد فيها هدنة، تسارع إسرائيل إلى اختراقها عبر عمليات عسكرية أو استهدافات محدودة(3).

الانقسام الفلسطيني الداخلي وتأثيره على مسار المفاوضات:

الانقسام السياسي بين الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا فتح وحماس، يشكّل عقبة رئيسية أمام تحقيق موقف فلسطيني موحّد في المفاوضات. هذا الانقسام يُضعف الجبهة الفلسطينية ويمنح إسرائيل ذريعة لفرض شروطها الأحادية.

التدخلات الإقليمية والدولية:

تُعَدّ الأدوار الإقليمية والدولية في ملف غزة سلاحًا ذا حدين.

1. الدور الأمريكي المنحاز لإسرائيل: الولايات المتحدة تدعم إسرائيل عسكريًّا وسياسيًّا، مما يُشجعها على التصعيد دون خوف من عقوبات دولية.

2. التباين في المواقف العربية: بالرغم من دعم بعض الدول للقضية الفلسطينية، إلا أن التباينات السياسية والإستراتيجية أضعفت التنسيق العربي بشأن غزة.

ضعف الإرادة الدولية للضغط على إسرائيل:

المجتمع الدولي رغم دعواته المتكررة لوقف إطلاق النار، يُظهر ضعفًا في اتخاذ خطوات فعلية لفرض ذلك، فغياب العقوبات الحقيقية على إسرائيل يتيح لها التهرب من أي التزامات تفاوضية(4).

الأهداف الإسرائيلية من استمرار العدوان:

إسرائيل ترى أن استمرار العمليات العسكرية في غزة يحقق لها أهدافًا إستراتيجية، منها:

1. إضعاف المقاومة الفلسطينية: من خلال استهداف قياداتها ومواقعها العسكرية.

2. فرض شروط تفاوضية مجحفة: تُحاول إسرائيل استغلال العدوان للضغط على الفلسطينيين لقبول حلول تتجاهل حقوقهم المشروعة(5).

الوضع الإنساني كأداة ضغط:

تستغل إسرائيل تدهور الوضع الإنساني في غزة للضغط على الفلسطينيين، حيث تمنع إدخال المساعدات وتستهدف البنية التحتية؛ مما يزيد من معاناة المدنيين ويُعقّد المفاوضات.

ما المطلوب لتحقيق وقف إطلاق النار؟

1. دور إقليمي أكثر حسمًا:

تعزيز الوساطة المصرية مع ضمان دعم دولي يفرض ضغوطًا على الطرفين.

2. توحيد الصف الفلسطيني:

إنهاء الانقسام الداخلي كخطوة أساسية لتقديم موقف تفاوضي قوي.

3. تحرك دولي فاعل:

الضغط على إسرائيل لرفع الحصار عن غزة، وتحسين الأوضاع الإنسانية، مقابل التزام الفصائل بوقف التصعيد.

4. ضمانات طويلة الأمد:

وضع آليات تضمن التزام الطرفين بالتهدئة، وتمنع انهيار الاتفاقات السابقة.

الخلاصة:

يبقى أمل الشعب الفلسطيني في صموده وثباته، حيث أثبتت غزة أنها رمز للمقاومة والصمود، رغم كل التحديات.

على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وإلا ستبقى غزة عنوانًا للظلم في عصر يدَّعي الدفاع عن حقوق الإنسان.

تعثر وقف إطلاق النار في غزة يعكس طبيعة الأزمة المعقدة التي تجمع بين الحسابات السياسية والمصالح الإستراتيجية والمعاناة الإنسانية.

فإن تحقيق التهدئة يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، إضافة إلى دور دولي وإقليمي أكثر فاعلية؛ فهل يكون الحل قريبًا، أم أن غزة ستظل ساحة لصر؟

وإجمالًا يمكن القول: إن وقف الحرب على غزة يتطلب إعادة النظر للقضية الفلسطينية في مجملها وليس في سياق التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران، كما أن الحديث عن مستقبل غزة وإدارتها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، وهو ما يستدعي بالضرورة تعزيز وحدة الصف الفلسطيني والتحدث بصوت واحد أمام المجتمع الدولي لدرء مخاطر تقويض القضية بتباين المواقف الدولية وتعاقب الإدارات الأمريكية الداعمة لإسرائيل بالمطلق.

المصادر:

1_ مركز رع للدراسات

2_ T.R.T

3_ أخبار الآن

3_ فرانس 24

4_ الجزيرة

5_ الشروق

التعليقات مغلقة.