fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

معركة المياه في الفكر الصهيوني

سعت -وتسعى- القوى المعادية لهذه الأمة إلى تجريدها من مختلف وسائل البقاء والتطور والنهوض

681

معركة المياه في الفكر الصهيوني

مدخل

منذ أواخر القرن التاسع عشر، والوطن العربي  -من خليجه العربي إلى المحيط الأطلسي- يواجه العديد من التحديات الداخلية والخارجية، حيث تعرّض -وما يزال- لهجمات استعمارية – صهيونية بكل صورها وأدواتها الإجرامية؛ بهدفٍ واحدٍ رئيسي يتمثل بفرض التبعية والوصاية، وتقطيع أواصر الترابط الأزلي بين مكونات أبناء هذا الوطن.

وفي سبيل ذلك سعت -وتسعى- القوى المعادية لهذه الأمة إلى تجريدها من مختلف وسائل البقاء والتطور والنهوض.

وحتى تتمكن القوى الاستعمارية – الصهيونية من تحقيق أغراضها العدوانية، وضعت استراتيجيات للسيطرة على مقدّرات هذه الأمة وخيراتها، التي يبرز من بين أهمها وأخطرها: مواد استراتيجية مهمة جدًّا: كالنفط والمياه.

وفي هذا الصدد، فإن أكبر المخاطر التي تواجه المياه العربية، ما يسعى إليه الكيان الصهيوني من سيطرة عليها بمختلف الوسائل، وكان رواد المشروع الصهيوني متيقظين -منذ البداية- بالنسبة إلى أهمية المياه في نجاح مشروعهم الاستيطاني في فلسطين واستمراره، ورفعوا شعارهم المعروف: «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، وهو ما يؤكد أن البُعد المائي كان حاضرًا في تكوين الأبعاد الجغرافية للمشروع بوصفه البُعد الذي يتوقف نجاح المشروع واستمراره وازدهاره عليه؛ لذلك وضعت الحركة الصهيونية دائمًا التحكم بمصادر المياه في أولوياتها، إلى درجة عسكرة المياه!

وبعد ما نجح اليهود في تحقق هدفهم الأول: (إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين)، شرعوا في السعي لتحقيق هدفهم الثاني: تعيين وترسيم حدود سياسية وقانونية لدولتهم تحوي ضمنها المناطق الغنية بموارد المياه؛ خاصة أن الكثير من مصادر الوطن العربي المائية تأتي من خارج حدوده الجغرافية والسياسية، كما هي الحال بالنسبة إلى مياه النيل والفرات، حتى إن المياه التي تنبع من داخل الوطن العربي، لم تخلُ من مخاطر السيطرة عليها؛ إلا أن ما يزيد هذه الأزمة خطورة هو أن قرابة نصف الموارد المائية العربية السطحية المتجددة تأتي من مصادر مائية مشتركة مع الدول المجاورة غير العربية: (كالنيل ودجلة والفرات)، كما أن هناك محاولات من قِبَل هذه الدول للاستئثار بأكبر كمية ممكنة من المصادر المائية المشتركة معها في أحواض هذه الأنهار.

أضف إلى ذلك: أن الكثير من القوى المحيطة بالوطن العربي، تعمل بشكل صريح أو ضمني للتنسيق والعمل مع الكيان الصهيوني.

ولم يتوقف الأمر على القوى المحيطة فحسب، بل بات أكثر حرجًا مع بوادر التعاون العربي – الصهيوني في إقامة مشاريع مائية مشتركة، حتى مع مَن يتصدّرون العمل السياسي في فلسطين المحتلة غافلين عن أنها كلها تصب في مصلحة العدو الصهيوني.

وبعد هذا المدخل، نحاول أن نلقي بعض الضوء على ارتباط المياه بأصل الفكر التوسعي الاستيطاني للعدو الصهيوني وتركز هذه الورقة على مياه النيل ضمن اجندة إسرائيل الاستعمارية في ملف المياه.

التاريخ يشهد ولا أحد ينكر:

للمياه أهميتها الكبرى في الفكر التوسعي الصهيوني، ويمكن الاستدلال على ذلك بأقوال وتصريحات كبار رموز الحركة الصهيونية حيث قال هرتزل -مؤسس الحركة الصهيونية-: “إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة هم مهندسو المياه؛ فعليهم يعتمد كل شيء“، وصرَّح “بن جوريون” -أول رئيس وزراء لإسرائيل-: أن اليهود يخوضون مع العرب معركة مياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل.

 ولم يشذ (ليفي أشكول) -رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أثناء حرب 67، والمدير العام لشركة (ميكورث) المائية الإسرائيلية- عن الركب حيث قال: “إنه بدون المياه فإن الحلم الصهيوني لا يمكن تحقيقه، فمِن غير المياه لا تتسع الرقعة الزراعية، وبدون توسع الزراعة لا يمكن أن يكون هناك أساس لحياة الشعب اليهودي في أرض إسرائيل“.

بل وذهب إسحاق شامير -رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق- إلى أبعد من ذلك حيث أعلن استعداده لتوقيع معاهدة حظر أسلحة الدمار الشامل، وقبول التفتيش على المنشآت النووية الإسرائيلية مقابل إشراك إسرائيل في اتفاقيات إعادة توزيع المياه في المنطقة، ولعل هذا يفسِّر الأطماع الصهيونية في الموارد المائية العربية المتمثلة في نهر الأردن في فلسطين و الأردن، ونهر النيل في مصر، ونهر الليطانى في لبنان.

 وتعود جذور الأطماع الصهيونية في مياه النيل إلى عام 1902م عندما تباحث هرتزل مع وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشيمبرلين على توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء، واقترح هرتزل توصيل مياه النيل إلى سيناء عبر أنفاق تمر تحت قناة السويس؛ وذلك من أجل تهيئة سيناء لكي تكون صالحة لسكنى اليهود؛ إلا أن المشروع تم رفضه بسبب تخوف بريطانيا من أن يؤثر مقترح هرتزل الخاص بتوصيل مياه النيل إلى سيناء على كمية المياه المخصصة لزراعة القطن في مصر، والذي كان محصولًا مهمًّا للسياسة الاستعمارية البريطانية في مصر.

 وتجددت الأطماع الصهيونية في مياه النيل مرة أخرى في عام 1974 عندما نشر “اليشع كالي” -أحد مسئولي شركة (تاحال) المائية الإسرائيلية، والتي تملك الحكومة الإسرائيلية 52% من أسهمها- مقالًا زعم فيه أن مشاكل إسرائيل المائية يمكن أن تحل ولفترة طويلة باستخدام واحد في المائة فقط (1%) من مياه النيل، أي: ما يعادل 800 مليون متر مكعب من أصل 80 مليار متر سنويًّا هو مجموع إيراد نهر النيل.

وفي عام 1979 أكَّد “اليعازر إفتاي” -رئيس لجنة المياه بالكنيست آنذاك- على ضرورة مطالبة إسرائيل لمصر بتوصيل مياه النيل إلى صحراء النقب قائلًا: “إنه ليس من المعقول أن تصب مياه النيل في البحر المتوسط، بينما تعاني إسرائيل من مشكلة نقص المياه”.

هذه الأطماع دفعت الكيان الصهيوني إلى إقامة علاقات وثيقة مع الدولة الإثيوبية والانفصاليين التابعين لما يسمَّى بالحركة الشعبية لتحرير السودان في جنوب السودان؛ وذلك من أجل خنق مصر مائيًّا، ووضعها في موقف مائي صعب؛ لإذلال مصر، والتي تعد من إحدى دول المواجهة مع الكيان الصهيوني حيث كشف الخبير الإستراتيجي الإسرائيلى أرنون شوفير في كتابه: (صراعات المياه في الشرق الأوسط): أن بلاده تقوم بدور مهم في أزمة مياه النيل؛ مؤداه التأثير على أمن مصر المائي لأهدافٍ سياسية، وإستراتيجية حيث اعترف شوفير أن إسرائيل يهمها زيادة حصة إثيوبيا من مياه النيل؛ لأن هذا الأمر يعني من وجهة النظر الإسرائيلية: إعادة تقسيم مياه النيل بشكلٍ جديدٍ.

 التحالف الصهيوني مع النظام الإثيوبى ومتمردي جنوب السودان:

وفي كتاب صدر عام 2003 عن مركز ديَّان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة تل أبيب بعنوان: (إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق) كشف موشيه فرجي العميد المتقاعد وثيق الصلة بالدوائر الاستخباراتية الإسرائيلية: أن إسرائيل قد ساهمت في إنشاء ما يسمَّى: بـ(الحركة الشعبية لتحرير السودان) في عام 1983 بقيادة جون جارانج الضابط الجنوبي المنشق عن الجيش السوداني حيث زودته بأسلحة متقدمة، ودربت عشرة من كوادر الحركة على قيادة مقاتلات جوية خفيفة لمهاجمة القوات التابعة لحكومة الخرطوم، ووفرت له صورًا عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية، كما أرسلت إسرائيل خبرائها لمساعدة الانفصاليين على وضع خطط القتال.

وفي دراسة قدَّمتها يهوديت روبين الباحثة بمركز ديان تناولت الدعم الصهيوني لمتمردي جنوب السودان، قالت:

إن إسرائيل لعبت دورًا في تعميق الفجوة بين الأطراف المتصارعة من أجل بلوغ هدف تفتيت السودان لتجريد مصر من عمقها الإستراتيجي، وشغل السودان بهمومه الداخلية.

وعلى الرغم من تعاقب الأنظمة السياسية على إثيوبيا؛ إلا أن العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية ظلت قوية في عهود كلٍّ مِن الإمبراطور هيلاسلاسي، والزعيم الشيوعي منجستو ماريام، ورئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي، حيث قامت إسرائيل بتوظيف قدراتها العسكرية لتقوية النظام السياسي الإثيوبى من خلال إرسال خبراء في المجال الأمنى والعسكري لإعداد وتدريب القوات المسلحة الإثيوبية، وبفضل الدعم الإسرائيلى المستمر وتشجيع الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت إثيوبيا من القوى العسكرية الكبرى في القرن الإفريقي.

كما لوحظ أن إثيوبيا قد امتنعت عن التصويت على اتفاقية المجاري المائية الدولية في 21 مايو 1997م في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكَّد مندوبها أن ذلك يرجع إلى أن الاتفاقية لا تحقق التوازن بين دول المنبع ودول المصب، وتتحفظ بشدة على المادة السابعة الخاصة بالالتزام بعدم الإضرار الجسيم.

وتهدف السياسة الإسرائيلية إلى الحصول على حصص ثابتة من الأنهار العربية (النيل، اليرموك والليطاني) في مقابل أي سلام شامل، وحول هذا يقول البروفيسور [لان سالازفسكي] -مفوض المياه في إسرائيل وعضو الوفد الإسرائيلي في مفاوضات السلام-: “إذا كان أحد من العرب يريد السلام فينبغي ألا يجادل بشأن المياه، وإذا قال العرب لا يمكننا التحدث إليكم عن المياه؛ لأننا لا نزال أعداءً، فإنهم بذلك لا يقصدون السلام”.

وقد سعت إسرائيل في عهد منجستو ماريام لاتخاذ إثيوبيا قاعدة للتنسيق مع متمردي جنوب السودان الذي يحتوي على حوض بحر الجبل المكون الأول للنيل الأبيض، والذي يعد أحد روافد نهر النيل، وبذلك تكتمل حلقات السيطرة على منابع النيل.

وقد هدف التعاون الصهيوني الإثيوبي إلى تنفيذ عددٍ كبيرٍ من المشروعات المائية على النيل الأزرق، مِن بينهم 36 سدًّا، منهم سد تخزيني على نهر فيشا أحد روافد النيل الأزرق حيث سعت إسرائيل إلى التدخل لدى البنك الدولي لتمويل المشروع على أن يتولى الفنيون الإسرائيليون وضع الدراسات الفنية والإشراف على التنفيذ، ولكن بسبب ارتفاع تكلفة المشروع بالنسبة لإثيوبيا الاقتصادية؛ رفض البنك الدولي تمويل المشروع.

وقد شاركت إسرائيل في إقامة 25 سدًّا من أصل 37 سدًّا قامت إثيوبيا بتنفيذها في الفترة من نوفمبر 1989، وحتى منتصف فبراير 1990 بنسبة 67%.

ويكفي للتدليل على قوة الاختراق الصهيوني للنظام السياسي الإثيوبي أن رئيس الوزراء الإثيوبى السابق (هايلي مريام ديسالين)، والذي قطع مشروع سد النهضة شوطًا كبيرًا في عهده صديق حميم لإسرائيل، وفقًا لتصريحات أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية الصهيوني سابقًا ووزير الدفاع، حيث قال ليبرمان: إنه يعرف ديسالين عن قرب، وقد التقاه عده مرات.

والجدير بالذكر: أن ديسالين قد عمل قبيل توليه منصب رئاسة الوزراء كمهندس في فرع شركة (سوليل بونيه) الإسرائيلية في أديس أبابا، وهي شركة متخصصة في بناء السدود وتعبيد الطرق، وإقامة القواعد الجوية والموانئ.

وقد أسندت الحكومة الإثيوبية إلى إحدى الشركات الإسرائيلية مهمة إدارة وتوزيع ونقل الكهرباء المتوقع توليدها من سد النهضة الجاري تنفيذه؛ الأمر الذي يؤكِّد أن سد النهضة حلقة من حلقات المخطط الصهيوني لخنق مصر مائيًّا.

وأخيرًا:

إن مسألة الأمن المائي لا بد من أن توضع في قمة سلّم مصالح جميع البلدان العربية، وربما لا نبالغ إذا قلنا: إن الأمن المائي العربي، في ضوء التطورات السياسية الدولية وانعكاساتها على وطننا العربي، تفوّق من حيث الأهمية على الأمن العسكري، ولكن -للأسف- رغم الإدراك المتنامي لخطورة قضية المياه في المنطقة وارتباطها الوثيق بقضية الأمن القومي العربي؛ إلا أن هذا الإدراك لم تتم ترجمته حتى الآن إلى سياسة عربية موحدة تجاه قضية المياه، وغياب إستراتيجية أمنية عربية جدية فاعلة لحماية هذه الثروة القومية، سوف يفاقم المشكلة، ويعمّق مِن أبعادها الخطيرة.

——————————

‏المراجع:

د/ زكي البحيري: مصر ومشكلة مياه النيل (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2016).

 د/ عمر فضل الله: حرب المياه على ضفاف النيل (دار نهضة مصر، القاهرة، 2013).

د/ احمد سعيد نوفل: دور اسرائيل في تفتيت الوطن العربي (مركز الزيتونة للدراسات، بيروت، 2010).

م/ حسام رضا: مخاطر التطبيع مع العدو ملفات في الأرض والمياه (مركز باحث للدراسات ببيروت ومركز النيل للدراسات بالقاهرة، 2014).

مركز دراسات الوحدة العربية

مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

رابط : https://www.rwaqcenter.net/?s=سد+النهضة

التعليقات مغلقة.