fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

قصة السد العالي… ماذا تحقق بعد نصف قرن من الزمان؟

317

قصة السد العالي… ماذا تحقق بعد نصف قرن من الزمان؟

 

فإن أمن مصر القومي والإستراتيجي يبدأ من أعالي النيل، حيث اهتم المصريون في الحقب الزمنية البعيدة وحتى طيلة القرون والعقود الماضية بتأمين مصادر الحياة، وذلك بالبحث وإرسال البعثات والاستكشاف لتأمين الحياة.

ويُعد نهر النيل من أطول الأنهار بنحو 6650 كم، ويجري من الجنوب إلى الشمال، وتزيد مساحة حوض النهرعن ٣٫٣ مليون كيلو متر مربع، تشترك فيها عشر دول، هي: (تنزانيا / رواندا / بوروندي / الكونغو الديمقراطية / كينيا / أوغندا / أثيوبيا / إريتريا / السودان / مصر).

وبدا الاهتمام بالنهر منذ زمن بعيد حيث توصل العالم الإغريقي هيرودوت إلى أن جزءًا من مياه النيل يأتي من إثيوبيا وذلك قبل ما يربو عن 2480عام، كما أرسل الإمبراطور نيرو بعثتين إلى جبال النوبة، ورسم العالم بطليموس خرائط تظهر النيل، وهو ينبع من بحيرتين جنوب خط الاستواء.

وفي منتصف القرن الثامن عشر توصَّل المستكشف الإسكتلندي جيمس بروس إلى أن المنبع الأساسي للنيل هو النيل الأزرق، وخلال تولي محمد علي باشا الحكم قام بإرسال عدة بعثات 1839/1842 تحت قيادة سليم بيك قبطان إلى النيل الأبيض، وقضى تمامًا على فكرة أن منابع النيل تقع في الغرب، وخلال جولات بحث عن مناجم الفحم للمهندس جون باتريك 1853/ 1857 اكتشف بحر الغزال.

كما أوفد الاحتلال البريطاني العديد من البعثات الاستكشافية لدول الحوض، من بينها رحلة المهندس جون سبيك 1860/1862، واكتشف المهندس صمويل بيكر 1866 بحيرة ألبرت، وتبعه الرحالة هنري استانلي 1888 بحيرة إدوار، وقبله الكولونيل الأمريكي شاليه لونج بحيرة كيوجا 1874.

رحلة المياه تقطع آلاف الكيلو مترات لتصل الأراضي المصرية:

تقطع المياه من روافدها حتى تصل إلى دولتي المصب: (مصر/ الودان) نحو آلاف الكيلو مترات، حيث يعد نهر “كاجيرا”، والذي يخرج من “بورندي” المنبع الرئيس لنهر النيل، ويتكون من التقاء رافديه (روفوفو/ ونيابرونجو) حيث يتجه شمالًا ثم شرقًا ليصب في بحيرة فيكتوريا -68 ألف كيلو متر مربع-، ثم يخرج منه نيل “فيكتوريا” لينحدر شمالاً مخترقًا مجموعة من المستنقعات قبل أن يدخل بحيرة ألبرت، ثم يخرج منها متجهًا إلى الشمال حيث يطلق عليه: “نيل ألبرت” وعند دخول النيل الأراضي السودانية يطلق عليه “بحر الجبل” حتى التقائه ببحر الغزال عند بحيرة نو، وبعد هذا يسمَّى بـ”النيل الأبيض” حتى مدينة الخرطوم، حيث يلتقي بالنيل الأزرق القادم من الهضبة الأثيوبية.

وبعد اتصاله ببحر الغزال يجري النيل لمسافة 720 كلم حتى يصل الخرطوم، وفي هذه الأثناء يدعى “النيل الأبيض”، حيث يلتحم هناك مع “النيل الأزرق” الذي ينبع مع روافده الرئيسية (الدندر والرهد) من جبال إثيوبيا حول بحيرة تانا الواقعة شرق القارة على بعد 1400 كم عن الخرطوم.

ويشكِّل النيل الأزرق 80-85% من مياه النيل الإجمالية، ولا يحصل هذا إلا أثناء مواسم الصيف؛ بسبب الأمطار الموسمية على مرتفعات إثيوبيا، وآخر ما تبقى من روافد نهر النيل بعد اتحاد النيلين: “الأبيض والأزرق”، هو: نهر عطبرة -800 كم، وينبع أيضًا من الهضبة الإثيوبية شمالي بحيرة تانا-.

وبعد التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق، يعرف المجرى باسم: “النيل النوبي” حتى مدينة أسوان، وعندها يعرف باسم: “نهر النيل الرئيسي”، حيث يستمر حاملًا هذا الاسم حتى شمال مدينة القاهرة قليلاً، ثم يتفرع إلى فرعين، هما: فرع دمياط شرقًا، وفرع رشيد غربًا.

ويلتقي عطبرة مع النيل على بعد 300 كم شمال الخرطوم، وحاله كحال النيل الأزرق، وقد يجف في الصيف، ثُم يتابع نهر النيل جريانه في الأراضي المصرية حتى نهاية رحلته الشاقة والطويلة في مصبه بالبحرالأبيض المتوسط، وهو الجزء الشمالي الشرقي من القارة السمراء.

اتفاقية 1929 مكملة لاتفاقية 1959 وليست لاغية لها:

كانت حصة مصر من اتفاقية 1929 نحو 48 مليار متر مكعب، وجاءت اتفاقية 59 مكملة لها بزيادة حصة مصر إلى 55.5 مليار متر مكعب، وحصة السودان 18.5 مليار متر مكعب في السنة؛ نظرًا للأهمية البالغة للشريان الأخضر والحياة على ضفاف النيل.

وقد اهتم المصريون منذ مئات -بل آلاف- السنين بمصادر المياه، وأبرموا العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية للحفاظ على حقوق مصر المائية؛ ففي 25 يناير 1925 أرسل رئيس الحكومة المصرية أحمد زيرو باشا مذكرة احتجاج للمندوب السامي البريطاني أعرب فيه عن قلقه من تزايد مساحة الأطيان الزراعية التي تروي الجزيرة بالسودان من 300 ألف فدان إلى مساحة غير محددة.

وتشكَّلت لجنة مصرية سودانية يرأسها وفد بريطاني انتهت إلى أن اتفاقية 1929 التي أبرمها المستعمر البريطاني لتقاسم المياه بين كلٍّ مِن دول الحوض والحكومة المصرية، ومع ما جاء في اتفاقي ومعاهدتي: 15، و6 مايو1902،1906 على الترتيب؛ فضلًا عن ما جاء في نصوص وبنود اتفاقية 1929على حق الاعتراض “الفيتو” حال قيام أية دولة بعمل مشروع مائي يضر بصالح دولتي المصب: “مصر / السودان”.

وضمنت الحكومة المصرية 1948 كتابًا بعنوان: (Nile Waters Agreement) جاء فيه المراحل التى سبقت اتفاق مياه النيل وتقارير لجنة مياه النيل، وتضمن كذلك رسائل الحكومة المصرية مع اللورد لوين المراقب البريطاني.

حيث ارتأت الحكومة المصرية على أن البت في هذه المسائل لا يمكن تأجيلها، وللقاهرة أن تحتفظ بحقها في هذا الشأن، وبناءً عليه تقبل الحكومة المصرية النتائج التى انتهت إليها لجنة مياه النيل في سنة 1925، والذى يعتبر جزءًا لا يتجزأ من هذا الاتفاق.

ورصد كتاب الحكومة المصرية عددًا من المراسلات بين الحكومة المصرية وحكومة المستعمر البريطاني، مِن بينها: شددت الحكومة بألا تقام أو تُجرى أي أعمال للري على النيل أو فروعه، أو على البحيرات التى تغذيه، سواء الموجودة في السودان أو في الأقاليم الخاضعة للإدارة البريطانية، والتي قد تضر بأي شكلٍ بمصالح مصر، سواء بتقليل كمية المياه التي تصل إليها، أو بتعديل تاريخ وصولها أو تعديل منسوب المياه؛ إلا بالاتفاق مع الحكومة المصرية.

وعبّر اللورد لوين بامتنان التاج البريطاني لمطلب الحكومة المصرية، مشيرًا إلى أن المباحثات المصرية البريطانية ستوجد حلول لزيادة تقدم مصر والسودان ورخائهما، مسجلًا اعتراف بلاده (الاحتلال) بحق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل، وكرر أن حكومة الملك تعتبر المحافظة على هذه الحقوق مبدأ أساسيًّا من مبادئ السياسة البريطانية، كما تؤكد لسعادتكم بطريقة قاطعة: أن هذا المبدأ أو تفصيلات هذا الاتفاق ستنفذ في كل وقتٍ أيًّا كانت الظروف التي قد تطرأ فيما بعد.

تنظم اتفاقية 1929 العلاقة المائية بين مصر ودول الهضبة الاستوائية:

  • أن مصر شديدة الاهتمام بتعمير السودان وتوافق على زيادة الكميات التي يستخدمها السودان من مياه النيل دون الإضرار بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في تلك المياه .
  • منع أية أعمال ري أو توليد قوي أو أي إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي تنبع سواء من السودان أو البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية من شأنها إنقاص مقدار المياه الذي يصل لمصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررًا بمصالح مصر.
  • تقدم جميع التسهيلات للحكومة المصرية لعمل الدراسات والبحوث المائية لنهر النيل بالسودان، ويمكنها إقامة أعمال هناك لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر بالاتفاق مع السلطات.

استقلال السودان:

نظرًا لتدفق المياه الهائل والغزير خلال مواسم الفيضانات، كانت رؤية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هي حجز تلك المياه داخل الأراضي المصرية والسودانية بدلًا مِن إهدارها سواء في البحر الأبيض المتوسط، أو الحدِّ من عمليات الغرق التي كانت تطول القرى والمدن، والحفاظ على المزروعات.

وفي فبراير 1953 أبرمت الحكومة المصرية مع الاحتلال البريطاني اتفاقية الحكم الذاتي للسودان، وفي مطلع يناير 1956 أعلن رئيس الوزراء السوداني أمام البرلمان استقلال بلاده عن مصر، وتعيين عبد الله خليل من حزب الأمة الفائز في الانتخابات البرلمانية رئيساً للوزراء.

وقبل ذلك بعامين طلبت الحكومة السودانية التفاوض مع مصر لبناء سد الروصيرص، ولتفادي الآثار الناجمة عن نقص المياه: اقترحت القاهرة على السودان مشروع السد العالي لزيادة الحصة المائية لكلٍّ من البلدين مما يمكِّن السودان من بناء سد الروصيرص.

لماذا السد العالي؟

لم يتمكَّن المصريون مِن تفادي فيضان النهر قبل بناء السد العالي، فالسدود والمحاولات لم تكن كافية فسد أسوان الذي تم تعليته 3 مرات 1934 كان يحجز نحو 5 مليارات متر مكعب، وكانت تعلوه الفيضانات من المياه، وخلال الفيضانات الشديدة لم يستطع كبح جماح الفكر المصري للاستفادة من كل قطرة من حصة مصر، حتى طرح المهندس اليوناني من أصل مصري أدريان دانينوس 1952 بناء سد ضخم في أسوان لحماية البلاد من الفيضانات.

اختمرت الفكرة في عقول قادة الجيش، وبمجيء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بحث عن مشروع قومي يلهب به حماس الأمة، فوجد مشروع السد العالي، وطلب تمويلًا من البنك الدولي 1954، فوافق إلا أن وزير خارجية الولايات المتحدة جون فوستر دالاس، تخوف فقام رجال الرئيس الأمريكي داويت دي أيزنهاور، بإقناع دلاس في محاولة لتقويض علاقة مصر بالاتحاد السوفييتي.

وأعلن دالاس في ديسمبر موافقة أمريكا وبريطانيا تقديم البنك الولي مساعدة لمصر بقيمة 70 مليون دولار لبناء السد العالي؛ إلا أن الأمريكان تراجعوا عن قراره وألغي العرض الأمريكي.

وردًّا على قرار الانسحاب الأمريكي من تمويل إنشاء السد العالي، أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأميمه لقناة السويس في 26 يوليو 1956، واعتبارها شركة مساهمة مصرية، وهو ما عَرَّض مصر للعدوان الثلاثي 1956من: “بريطانيا – فرنسا – الكيان الصهيوني”، وتدخلت القوى الكبرى: “أمريكا / الاتحاد السوفيتي”.

 وبعد فترة وفي 27 ديسمبر1958، وقَّعت مصر مع الاتحاد السوفيتي اتفاقية تمويل وبناء السد العالي، وتنص على إقراض الاتحاد السوفييتي مصر نحو 400 مليون روبل، بينما بلغت تكاليف المشروع 450 مليون جنيه مصري في حينها؛ أي ما يعادل مليار دولار -الجنيه يعادل 2.3 دولار آنذاك 27 ديمسبر 1958-.

بناء السد وتحويل المجرى القديم:

تم الاتفاق مع الجانب الروسي، وتوافق الطرفان على الأمور الفنية والهندسية، حيث يبلغ ارتفاعه 111 مترًا، فوق منسوب قاع نهر النيل، وطوله 3830 مترًا، وعرض قاعدته 980 مترًا، بينما سعة قناة تصريف المياه 11000 متر مكعب في الثانية، وحجم جسم السد 43 مليون متر مكعب، من إسمنت وحديد، ومواد أخرى، وهو من النوع الركامي المنشأ بين جبلين.

استخدم الروس في مراحل البناء خام الجرانيت والرمال والطمي، والطين الأسواني، وأغلق المهندسون والفنيون مجرى النهر بمسافة حوالي 7 كيلومترات، ثم حول مجرى المياه إلى قناة يتوسطها 6 أنفاق متصلة في نهايتها بمحطة كهرباء مزودة بـ 12 توربينًا، عرض مجرى النهر عند موقع السد 205 مترًا، وأقصى ارتفاع 111 مترًا، وعرض قاعدة السد 980 مترًا، وعرض الطريق فوق السد 40 مترًا.

حجم جسم السد 43 مليون متر مكعب من إسمنت وحديد، ومواد أخرى، ويمكن أن يمر خلال السد تدفق مائي يصل إلى 11 ألف متر مكعب من الماء في الثانية الواحدة، أما محطة الكهرباء قتقع علي الضفة الشرقية للنيل، معترضة مجرى قناة التحويل التي تنساب منها المياه إلى التوربينات من خلال ستة أنفاق مزودة ببوابات للتحكم في المياه بالإضافة إلى حواجز للأعشاب.

وتبلغ سعة التخزين الكلية لبحيرة ناصر نحو 162 مليار متر مكعب من المياه، وسعة التخزين الميت 32 مليار متر مكعب، وتعني كمية المياه التي لا يمكن نقلها من خلال فتحات السد، حيث تقع هذه الكمية أسفل منسوب فتحات جسم السد.

مراحل بدء مشروع القرن في مصر:

في 9/1/1961، وضع عبد الناصر حجر الأساس لبناء السد العالي، وشهدت المرحلة الأولى تحويل مجرى النيل، واستمرت 4 سنوات، وشملت حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخراسانة المسلحة، وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتى منسوب 130 مترًا، حيث تم تحويل مجرى النهر إلى قناة التحويل والأنفاق، وإقفال مجري النيل والبدء في تخزين المياه بالبحيرة، وبناء جسم السد حتى نهايته، وإتمام بناء محطة الكهرباء، وتركيب التوربينات وتشغيلها، مع إقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء.

وتم غلق مجرى نهرالقديم، وإنشاء الأنفاق ومحطة الكهرباء لإنتاج 10مليار كيلووات / ساعاة سنويًّا، ودخول المياه في مجرى التحويل الجديد، بمشاركة نحو 50 ألف عامل وفني وموظف، ونحو 400 خبير سوفيتي، انطلقت الشرارة الأولى من محطة كهرباء السد العالي في أكتوبرعام 1967، وبدأ تخزين المياه بالكامل أمام السد منذ عام 1968 حتى منتصف يوليو 1970 ليكتمل صرح المشروع، وتم افتتاحه رسميًّا في15 يناير 1971 في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات.

فوائد اقتصادية وسياسية… وأمراض بيئية واجتماعية!:

أما عن مزايا وإيجابيات السد العالي، فمن بينها: أنه حفَّز المصريين بالتفافهم خلف القيادة السياسية على مشروع قومي وواعد “سياسيًّا واقتصاديًّا”؛ بيد أن وخلال السنوات العشر الأخيرة ومع انخفاض منسوب المياه خرجت بعض أجزاء من محطة التوليد وَفْقًا لتصريحات متلفزة أدلى بها الدكتور محمد شاكر وزير الكهرباء والطاقة في لقاء الحكومة بالرئيس عبد الفتاح السيسي: حيث جنب مصر خطر الفيضان والجفاف، وكبح جماح فيضان النيل، وأسهم في تخزين المياه في بحيرة ناصر، وعملت محطات وتوربينات السد العالي على توليد الطاقة الكهرومائية، مكنت الدولة من إنارة المدن والمحافظات والمراكز حتى وصل التيار الكهربائي إلى القرى والنجوع والعزب والأتباع.

وقد أحدث السد نقلة نوعية في التنمية، فانتقلت البلاد من عصر “اللمبة الجاز” إلى عصر الكهرباء، ومشروعات تصنيع وإنتاج الأسمدة، والحديد والصلب، والألومنيوم، والسكر، فتغيرت السياسة الزراعية من الموسمية إلى الزراعة الدائمة، وأسهمت وفرة وكمية المياه في استصلاح الأراضي الصحراوية.

وأسهم السد في بناء وتشييد مشروعات التخزين السنوي، مثل: خزان أسوان، وخزان جبل الأولياء للتحكم في إيراد النهر المتغير، وبناء القناطر لتنظيم الري على أحباس النهر المختلفة، وذلك بعد ضبط فيضان النيل والذي وصل في بعض السنوات الزائدة نحو 151 مليار متر مكع؛ لذا فقد حمى السد البلاد من فترات الفيضانات الزائدة وفترات الجفاف شحيحة الإيراد وكان أشدها خلال الفترة ما بين 1979 إلى 1987 حيث تم سحب ما يقرب من 70 مليار متر متر مكعب من المخزون ببحيرة السد العالي لتعويض العجز السنوي كما جنَّب مصر مخاطر الفيضان العالي، وذلك في الفترة 1998 إلى 2002.

7 يونيو… وتهديدات سلاح الجو الإسرائيلي:

لم يكن مشروع السد العالي مفروشًا بالورورد، بل واجه العديد من التحديات، مِن أهمها: امتناع البنك الدولي وأمريكا عن التمويل والبناء، وهو ما أدَّى بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى طلب المساعدة من الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي الذي أعلن موافقته وبناء السد، وإمداد مصر بالخبراء الروس لإنجاز المشروع.

ومضى العمل رغم الصعوبات والتحديات، ومع الأيام ارتفعت نبرة التهديدات وتسربت من الإذاعات الخارجية مسامع أزيز الطائرات، وطالبت محطة إسرائيل الإذاعية إخلاء موقع السد تمهيدًا لضربه، ويوم الأربعاء 7 من يونيو اخترقت طائرات العدو سماء مصر، ونالت من سلاح الجو ودمرت بعض الطائرات في مرابطها، فعاشت البلاد لحظات هي الأصعب في تاريخها الحديث، وأنذر الجيش الإسرائيلي العاملين بالموقع تحسبًا لضرب محطة كهرباء السد العالي.

وفي عز حرارة ولهيب يونيو المشتعلة انتاب أكثر من 50 ألف عامل، ما بين حالة من التحدي والهرج انتظارًا لما ستسفر عنه تلك التهديدات من تل أبيب باستهداف السد العالي؛ ليصطف الآلاف معلنين تحديهم لطائرات الفانتوم بالجلوس والتسطيح على فوهات فتحات وممرات محطة كهرباء السد العالي، وعلى مساحات تزيد عن 50 كيلو متر للدفاع عن المحطة التي لم تكتمل وتقبع توربيناتها في أنفاق وممرات صخرية تحت سفح الجبال.

وما أن غربت شمس ذلك اليوم الرهيب -الأربعاء 7 يونيو- لملمت البلاد جراحها المكلومة، ونهضت القيادة السياسية والمسئولين لتجاوز تلك المحنة القاسية، ومضت في تنفيذ المشروع القومي حتى تمامه.

أما عن سلبيات السد العالي؛ فهي وإن مثَّلت مصدر تغيير ديموجرافي لأهلنا في منطقة النوبة، كان للعالم الدكتور جمال حمدان رأي آخر، “مجمله” في  الفصل الرابع من كتابه: “صفحات من أوراقه الخاصة” إعداد وتقديم دكتور عبد الحميد صالح حمدان، والصادر عن دار الغد العربي 1996:

  • يرى الدكتور جمال حمدان: أنه ببناء السد العالي أصبحت أرض مصر معرضة للتآكل الجغرافي لأول مرة في التاريخ كله، وإلى الأبد؛ إذ تحولت من عالم متناه بالطبع والطبيعة الجغرافية، إلى عالم متآكل بفعل الإنسان، فأولًا السد العالي أوقف نمو أرض مصر أفقيًّا ورأسيًّا كما عَرَّضها للتآكل البحري والصحراوي.
  • أصبحت أرض مصر أرضًا مغلقة بيولوجيًّا بلا صرف، بلا مصرف، وبالتالي: لا تتجدد مياهها وتربتها، كما لم يعد تتجدد أرضها وترابها، ومِن ثَمَّ أصبحت بيئة تلوث نموذجية، وبقدر ما هي بللورة مركزة طبيعيًّا، ستصبح بللورة تلوث مكثفة حتى الموت البيلوجي.
  • لأول مرة ظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدعون هيدرولوجيًّا، الآن أصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائي محدود، وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص، والمستقبل صعب، ولَّت أيام الغرق، وبدأت أيام الشرق وعرفت الجفاف، الجفاف المستديم بعد الري المستديم.
  • في الوقت نفسه: بلغ عدد سكان مصر الذروة غير المتصورة قط، بينما القاعدة الأرضية والمائية في انكماش أو انقراض.
  • مصر تختلف عن كل بلاد العالم من حيت مشكلة تلوث البيئة؛ فهي أول بيئة زراعية في التاريخ غالبًا، وهي الآن بيئة مرشحة للانقراض والاختفاء في التاريخ أيضًا.
  • الآن تتعرض البلاد لأكبر عملية تلويث كيماويًّا + تآكل ميكانيكيًّا، بحيث قد يأتي اليوم الذي تصبح فيه بيئة غير صالحة بتاتًا لاستمرار حياة الإنسان، وعندئذٍ ينقرض السكان والإنسان بعد انقراض الأرض والبيئة!

والآن وبعد نصف قرن من الزمان، يخطر لنا تساؤلات حول وضع المياه في مصر وما آلت إليه الأمور، وهل ستجد مشروعات التوسع الزراعي واستصلاح الأراضي المياه الكافية للري؟!

وما حقيقة الخزان النوبي؟

وهل لدينا مخزون وافٍ من المياه الجوفية يكفي مئات السنين كما يُقال؟!

وإلى أين وصلت مفاوضات سد النهضة؟

وما حقيقة إصرار العدو توصيل مياه النيل إلى صحراء النقب؟

ولماذا توقف مشروع قناة جونقلي؟

أسئلة طرحت نفسها، سنحاول الإجابة عليها في وقتٍ لاحقٍ.

التعليقات مغلقة.