fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

التبعات السياسية لاعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن وتداعياته على العلاقات “الأمريكية – التركية”

110

التبعات السياسية لاعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن وتداعياته على العلاقات “الأمريكية – التركية”

 

فقد دفعت مخاوف توتر العلاقات الأميركية مع تركيا رؤساء الولايات المتحدة السابقين، إلى التراجع عن وصف قتل العثمانيين أكثر من مليون أرميني خلال الحرب العالمية الأولى على أنه إبادة جماعية؛ ربما لأن تركيا عضو حلف “الناتو” لعبت دورًا مهمًّا في التدخل العسكري للولايات المتحدة في كلٍّ مِن: العراق، وسوريا، وأفغانستان.

ولكن الرئيس “جو بايدن” كسر حاجز الخوف معلنًا وصف الإبادة الجماعية بشكل رسمي بعد أيام قليلة من إخطار أنقرة إخراجها من برنامج تصنيع أجزاء من طائرة “أف 35” الشبحية الأميركية والإبقاء على الدول الشريكة الأخرى، فما الذي تعنيه هذه الخطوات، وهل يفسَّر ذلك أن تركيا لم تعد تحظى بالأهمية الجيوسياسية للولايات المتحدة مثلما كانت في الماضي؟

وفي تسلسل المواقف والردود الرافضة لقرار بايدن حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من “التأثير المدمر” لاعتراف واشنطن بالإبادة الأرمنية على العلاقات “التركية – الأميركية”.

وقال أردوغان: “إن الرئيس الأميركي جو بايدن، أدلى بتصريحات لا أساس لها وظالمة ومنافية للحقيقة، عبر اعترافه بالإبادة الأرمنية، محذرًا من التأثير المدمر“.

حيثيات الإعلان:

كان واضحًا أن البيان الذي أصدره البيت الأبيض حاول الموازنة بين توجيه رسالة إلى تركيا مفادها: بدء حقبة جديدة من العلاقات بين البلدين، وعدم المبالغة في استفزازها ودفعها إلى ردود فعل متطرفة. وفي هذا السياق حرص البيان على تجنب ذكر تركيا وتحميلها مسؤولية أحداث عام 1915، بل حددها فيما وصفها بـ”الإبادة الجماعية للأرمن في العهد العثماني”، كما شدد على أن ذلك يأتي في سياق “تأكيد التاريخ”، وليس “لإلقاء اللوم على أحدٍ، وإنما لضمان عدم تكرار ما حدث”.

وقد أشار الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إلى أن المسؤولين الأميركيين أبلغوا تركيا أن الإعلان لن يوفِّر أي أساس قانوني لمطالبات التعويض المحتملة، لكن ذلك لم يخفف من غضب أنقرة التي تدرك تداعيات مثل هذا الإعلان الأميركي؛ من قبيل فتح باب الدعاوى القضائية أمام المحاكم الأميركية لدفع تعويضات، فضلًا عن رمزية الإعلان نفسه، فتركيا تخشى بصفتها وريثة للدولة العثمانية، أن يؤسس الاعتراف الدولي المتزايد بما يوصف بـ”إبادة الأرمن” للتعامل معها على أنها “دولة منبوذة”(1).

 وهي تشدد في هذا السياق على أن ثمّة تسييسًا وتلاعبًا في تقديم أحداث عام 1915، ومِن ثمَّ فإنها دعت مرارًا إلى فتح الأرشيفين العثماني والأرميني أمام متخصصين في التاريخ للتحقيق في السردية الأرمنية للأحداث التي أصبحت من وجهة النظر التركية الرسمية، أداة تعتمدها دول غربية للتحرش بها، آخرها الولايات المتحدة بسبب خلافات سياسية(2).

المناسبة والتوقيت:

اختار بايدن موعدًا لإعلان اعترافه بالخطوة المثيرة للغضب التركي، وهو يوم 24 نيسان/ إبريل، الذي يوافق التاريخ الذي اختاره الأرمن في كلِّ عام لإحياء ذكرى ما يقولون: إنها “إبادة الأرمن”؛ لذلك، يأتي اختيار اليوم بالنسبة لبايدن متعمدًا، ليوافق هذه الذكرى السنوية.

أما عن المناسبة، فإن بايدن تعهّد خلال حملته الانتخابية العام الماضي بالاعتراف بـ”إبادة الأرمن”، وقال في 24 نيسان/ إبريل 2020: “علينا ألا ننسى إطلاقًا، وألا نلتزم الصمت حيال حملة الإبادة المروعة والمنهجية تلك”.

وعن السبب، يزعم أنه يأتي دعمًا لاحترام حقوق الإنسان، وتأييدًا لضحايا “الإبادة”، وَفْق بيان للبيت الأبيض(3).

ما أهمية ادعاءات “الإبادة الأرمينية” المزعومة بالنسبة للأرمن؟

أشعل المجتمع الأرميني العثماني تمردات وعمليات عسكرية كبيرة وصغيرة ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر مطالبًا بالاستقلال عن الدولة العثمانية، حيث توجد 38 حادثة وتمرد أرميني واسع النطاق وقع بين عامي: 1882-1904. تشمل هذه التمردات تحركات واسعة النطاق، مثل: تمرد ساسون الأول والثاني (1894،1897)، وتمرد زيتون (1895)، وتمرد أضنا (1909). التنظيم الذي يقف وراء تلك الأحداث كان في أغلب الأوقات الجمعيات، والروابط التي أسسها الأرمن داخل الأرضي العثمانية أو خارجها.

وتعد جمعية الصليب الأحمر التي أسست عام 1878 في مدينة وان، وجمعية المدافعين عن الوطن الأم التي أسست في مدينة أرض روم عام 1881، وحزب أرمينيا الثوري الذي أسس في وان عام 1885 بعضًا من تلك الجمعيات المذكورة.

احتدم التوتر أكثر بين المجتمع الأرمني من ناحية، والإدارة العثمانية والمجتمع المسلم من ناحية أخرى، في ظلِّ الظروف الاستثنائية للحرب العالمية الأولى، فاضطرت الدولة لممارسة التهجير وبعض التدابير الأخرى.

يشير يوم الرابع والعشرين من إبريل الذي يحييه الأرمن كل عام إلى بدء أحد تلك التدابير سالفة الذكر ممثلًا في اعتقال بعض الوجهاء والأعيان الأرمن في 24 أبريل من عام 1915 بأمر من طلعت باشا وزير الداخلية، بوصفه “اليوم الذي بدأت فيه الإبادة” المزعومة.

فيما بعد ومع القرار الذي تم اتخاذه في 27 مايو 1915 تم تطبيق تدبير التهجير على الأرمن طيلة الحرب، وهجر عدد كبير من الأرمن إلى أراضي سوريا اليوم.

إن تسبب ما وقع من أحداث في آلام متفهمة للمجتمع الأرميني العثماني هو حقيقة دامغة؛ الآلام المذكورة وخاصة الظروف القاسية للمرحلة، والخسائر التي وقعت في الاشتباكات المختلفة لطالما حُكيت عبر الأجيال.

غير أن المشكلة التي نشأت عبر هذه الآلام المتفهمة كانت اقتطاع الأحداث محل النقاش من سياقها، وتحويلها مع الستينيات تدريجيًّا إلى “عنصر هوياتي” بالنسبة للمجتمع الأرمني، فمع الستينيات تم البدء في جعل العنصر المشترك الرئيسي الجامع الشامل للأرمن المقيمين في أماكن مختلفة من العالم هو مفهوم “تجربة التعرض للإبادة الجماعية على يد الدولة العثمانية”، وتم تحويل مسألة الاعتراف بـ“الإبادة الأرمينية” المزعومة في كل العالم إلى المثل الأعلى والغاية الكبرى الوحيدة المشتركة تقريبًا للأرمن.

الصحفي الأرمني المرحوم هيرانت دينك كان قد انتقد في المقالة الثامنة من سلسلة المقالات المعنونة بـ“عن الهوية الأرمينية” التي كتبها بين 7 نوفمبر 2003 و13 فبراير 2004 إنشاء هوية المجتمع الأرمني على هذا العنصر، ودافع عن ضرورة التخلص من هذا العنصر وتشكيل هوية أرمينية حقيقية.

بعض الخطابات الموالية للأرمن تسعى باستمرار لتعزيز هذا العنصر، وتحاول وصف عدم اعتراف تركيا بالإبادة الأرمنية المزعومة على أنها “قتل للأرمن مرة ثانية”. “انظر: Julia Pascal, Guardian Saturday, January 27, 2001).  حتى أنها تبقي شكل تناول القضية بعيدًا كل البعد عن مناخ الحل الذي لا يناسب أغراض اللوبي الأرمني، فمثلًا: تفضل تلك الخطابات -للأسباب التي سنوضحها في الأسفل- متابعة القضية في المحاكم الأمريكية فيما يخص التعويضات أو الأملاك المتروكة، بدلاً من اللجوء للمحاكم التركية.

تتم مناقشة قضية “الإبادة” التي جعلت بهذا القدر من الأهمية بالنسبة للمجتمع الأرمني أكثر في الدول التي تقطنها جاليات أرمينية كبيرة، مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وتدار العديد من الأنشطة الخاصة بالجمعيات الكبرى واللوبيات؛ إضافة للأنشطة التعليمية، وبل وتستخدم كافة فروع الفن، مثل: السينما، والرسم، والأدب لخدمة هذا الغرض.

وتطرح ادعاءات الإبادة الأرمنية بصورة مستمرة على جدول الأعمال لاستغلال الفترات الحرجة للعملية السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، وتعد أحد المواضيع الثابتة التي يتوجب على مرشحي الرئاسة التعامل معها خاصة خلال الحملات الانتخابية(4).

اتساع رقعة الخلاف بين واشنطن وأنقرة:

تمثِّل الأزمة الأخيرة بين الولايات المتحدة وتركيا، المتعلقة بملف “الإبادة الجماعية للأرمن”، حلقة أخيرة في سلسلة أزمات مستمرة، منذ أيام إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، وهي مرتبطة بجملة من القضايا في منطقة الشرق الأوسط، وشرق البحر الأبيض المتوسط، والقوقاز.

وتوسعت هوة الخلافات بين البلدين بسبب المواقف من الثورات العربية، والسورية خصوصًا، واتهامات واشنطن للرئيس رجب طيب أردوغان بدعم الفصائل الإسلامية المتطرفة في سورية، والتراجع عن الديمقراطية في بلاده وانتهاك حقوق الإنسان، وفي المقابل: الغضب التركي من الموقف الأميركي الغامض من المحاولة الانقلابية التي عاشتها تركيا في تموز/ يوليو 2016.

وقد وصل انحدار العلاقة بين البلدين، خلال رئاسة دونالد ترامب، إلى فرض واشنطن عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا عام 2018 لاحتجازها القس الأميركي، أندرو برانسون، بتهم تتعلق بالتجسس والإرهاب، ودعم واشنطن حزب العمال الكردستاني، فضلًا عن التعاون مع منظمة الداعية التركي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والذي تتهمه أنقرة بالتخطيط لمحاولة الانقلاب الفاشلة، وترفض واشنطن تسليمه، أو طرده من أراضيها.

وتضاعفت حدة الخلافات بين البلدين بسبب ما تعتبره تركيا انحيازًا أميركيًا لصالح اليونان في الخلاف بين البلدين حول الحدود البحرية، وحقوق الغاز والنفط في شرق البحر الأبيض المتوسط.

ثم جاء دعم تركيا لأذربيجان في حربها مع أرمينيا عام 2020، ليزيد من هوة الخلاف مع واشنطن؛ إذ انتقدت أنقرة موقف مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تشكلت عام 1992 للتوسط في النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، وتضم روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، ولم تنظر هذه المجموعة بعين الرضى إلى الدعم التركي لأذربيجان، والذي مكَّنها من استعادة مناطق واسعة في إقليم ناغورنو قره باغ من أرمينيا.

أما أهم نقاط الخلاف بين الدولتين حاليًا، إضافةً إلى ملف غولن، فتتمثل بدعم واشنطن للمقاتلين الأكراد في شمال شرق سورية، وإتمام أنقرة صفقة صواريخ “إس-400” الروسية.

في الموضوع الأول لا تخفي أنقرة امتعاضها من دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية، وعمادها وحدات حماية الشعب الكردية، وهي بمنزلة الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الفرع السوري. وتصنف أنقرة هذا الحزب تصنيفًا إرهابيًّا على أساس ارتباطه بحزب العمال الكردستاني التركي، في حين تعتبره واشنطن حليفًا في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” في سورية. وقد شنَّت تركيا عددًا من العمليات العسكرية ضد تلك القوات؛ ما أثار انتقادات أميركية وتوترًا في العلاقات بين الطرفين.

أما بخصوص الملف الثاني المتعلق بالصفقة التي وقعتها تركيا، عام 2017، مع روسيا لشراء نظام الدفاع الصاروخي “إس-400″، وتسلمته أنقرة بالفعل في صيف عام 2019، فتقول واشنطن وحلف شمال الأطلسي “الناتو”: إن هذا النظام الدفاعي لا يتلاءم مع الأنظمة الدفاعية للحلف، كما أنه يشكِّل خطرًا استخباراتيًّا على طائرات “F-35” الأميركية المقاتلة التي شاركت تركيا في تصنيعها، ورغم عرض أنقرة التعاون في تشغيل أنظمة الصواريخ الروسية بما يعالج المخاوف الأميركية والأطلسية، فإن واشنطن بقيت ترفض ذلك. وقد أوقفت وزارة الدفاع الأميركية تسليم تركيا عددًا من هذه الطائرات المقاتلة، قبل أن تعود إدارة ترامب إلى فرض عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية أواخر عام 2020. وقبل يومين فقط من إعلان بايدن اعترافه بـ”الإبادة الجماعية للأرمن”، قامت وزارة الدفاع الأميركية في الثاني والعشرين من نيسان/ إبريل 2021، بإخراج تركيا رسميًّا من مشروع الدول المشاركة في تصنيع مقاتلات “F-35″(5).

تداعيات محتملة:

تتميز العلاقات الأمريكية التركية بالكثير من التعقيدات والتشابك التي تتحكم في مسارها مجموعة مختلفة من العوامل التي ساهمت في تقارب أو تباعد علاقاتهما، وقد شهدت واشنطن وأنقرة مجموعة من الخلافات خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن بعد فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن فإن هذا المتغير يمثِّل أهمية كبيرة في التأثير على مسار علاقاتهما. وضمن السياق ذاته كانت الشراكة القائمة بين البلدين منذ عشرات السنين شهدت خلافات كبيرة خلال السنوات الخمس الأخيرة، بسبب خلافات على السياسات الخاصة بسوريا، والعلاقات الأوثق التي ربطت بين أنقرة وموسكو، وطموحات تركيا في شرق البحر المتوسط، واتهامات أميركية موجهة إلى بنك تركي مملوك للدولة حول علاقاتها مع إيران، إلى جانب وتراجع الحقوق والحريات في تركيا.

وقد شكَّل فوز الرئيس بايدن أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا التي تتزايد مخاوفها من التوجهات الأمريكية تجاهها؛ نظرًا لمواقفه وتصريحاته المناهضة للسياسة التركية، ولا سيما أنه انتقد مرارًا وتكرارًا علاقات الإداراة الأميركية السابقة مع نظيرتها التركية، ويؤشر على ذلك موقف الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن من الرئيس التركي رجب أردوغان والذي أعلن فيه عن دعم الولايات المتحدة المعارضة التركية للإطاحة بأردوغان الذي وصفه بـالمستبد؛ بالإضافة إلى ذلك موقف بايدن من السياسة التصعيدية التركية في منطقة شرق المتوسط وتعزيز علاقاتها مع روسيا من خلال امتلاكها منظومة الصواريخ إس 400، والذي أعلن أنه سيجعل أنقرة تدفع ثمنًا لهذه السياسات، وقد جاء القرار الأمريكي بالاعتراف بمذابح الأرمن بمثابة امتدادٍ لهذه السياسات.

ومِن ثَمَّ فإن ترجمة القرار الأمريكي إلى سلوكيات عملية وأفعال في سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا، وهو الأمر الذي يخضع شأن أي دولة أخرى للمصالح العليا وليس للمعايير الأخلاقية، خصوصًا أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي وشريك أساسي، ولا غنى عنه للغرب في سياساته الإقليمية والدولية.

ويمكن الإشارة هنا: إلى أن القرار الأمريكي يمكن أن يكون بداية للاعتراف الأمريكي بالمجازر التي تم ارتكابها في حق الأكراد في سوريا والعراق باعتبارهم أكثر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة في مواجهة التنظيمات المتطرفة في المنطقة؛ خاصة وأن الحزب الديمقراطيي يريد إحراج ترامب بعد اتفاقه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول الوضع في سوريا وإقامة منطقة آمنة، خصوصًا بعد ما ذهب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس يرافقه وزير الخارجية وآخرون إلى أنقرة في 17 أكتوبر 2020 لإبرام اتفاق المنطقة الآمنة من 13 بندًا، وقد فتح هذا الاتفاق الباب أمام تشريع التدخل العسكري التركي في شمال شرقي الفرات بين تل أبيض ورأس العين لمواجهة الأكراد حليف الولايات المتحدة(6).

وقد أقر محللون وخبراء بأنه لن يكون لإعلان بايدن أي تأثير قانوني، لكنه لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تفاقم التوتر مع تركيا.

في حين يمكن أن يشكِّل قرار الاعتراف الأمريكي دعمًا لمطالبات الأرمن بالتعويض، ليرفعوا دعوات قضائية في أمريكا ضد تركيا، لكن وقبل كل شيء يثير القرار غضب أنقرة التي تصر على أن عدد الأرمن الذين قُتِلوا مُبَالَغ فيه بشكلٍ كبيرٍ، وأن عددًا أكبر من المسلمين قُتِل في تلك الفترة.

ومِن جهته قال المحلل السياسي التركي إسماعيل ياشا في تصريح لـ”عربي21″: “إن قرار الاعتراف لا يؤثِّر قانونيًّا البتة على تركيا، والأمم المتحدة لا تتدخل بمثل هذا الموضوع طالما أن تركيا دولة ذات سيادة ودولة قوية كما هي عليه اليوم”.

 وقال: “الأحداث بالأصل جرت في العهد العثماني، وقبل تأسيس الأمم المتحدة حتى، ولا يمكن تحميل تركيا مسؤولية ما جَرَى بهذه الحقبة التاريخية”.

وأضاف: إن العلاقات التركية الأمريكية متوترة منذ فترة طويلة، والخطوة إنما تزيد الطين بلة؛ إلا أنه أوضح أن التهديد الأمريكي المستمر بالاعتراف بهذه الخطوة، كان ورقة ضغط على أنقرة طوال إدارات أمريكية سابقة، وورقة ابتزاز، ولكن بما أن بايدن فعلها أخيرًا، فإن تركيا تتحرر بذلك من هذا الخوف.

وقال: “في الحقيقة واشنطن تفقد أوراق ضغطها على تركيا واحدة تلو الأخرى، من إف -35 إلى الاعتراف بالإبادة المزعومة”.

وشدد ياشا على أن العلاقات بين البلدين دخلت الآن في مسار آخر، من تدهور متزايد، ولكنه أكد أنه لا يتوقع تصعيدًا وخطوات سريعة من تركيا بعد قرار بايدن.

وأشار إلى أن هناك دولًا كثيرة اعترفت بهذا الأمر قبل أمريكا، ولم يؤثر ذلك على تركيا، مشددًا على أنه طالما أن تركيا دولة قوية فإنه لا يمكن التأثير عليها بمثل هكذا قرارات رمزية.

ونقلت كذلك وكالة “رويترز” عن مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لم تسمه قوله: “إن اعتراف الرئيس بايدن يهدف إلى تكريم الضحايا، وليس توجيه اتهامات أو تجريم أحد”.

وسبق أن وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تركيا بـ”الشريكة الإستراتيجية المفترضة” التي “لا تتصرف كحليفٍ في العديد من الجوانب”، ما تعد مؤشرات على طريقة تفكير إدارة بايدن بشأن العلاقة مع أنقرة.

يذكر أن تركيا تؤكِّد عدم إمكانية إطلاق “الإبادة الجماعية” على تلك الأحداث، بل تصفها بـ”المأساة” لكلا الطرفين، وتدعو إلى تناول الملف بعيدًا عن الصراع السياسي وحل القضية دون النظرة الأحادية إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الآخر(7).

ردود فعل تركيا:

انتقدت تركيا قرار الرئيس الأمريكي وقالت: إنه ليس له أي أساس قانوني، وسيفتح “جرحًا عميقًا” في العلاقات الثنائية.

وقالت وزارة الخارجية التركية: “هذا البيان الأمريكي الذي يشوِّه الحقائق التاريخية لن يقبله ضمير الشعب التركي، وسوف يفتح جرحًا عميقًا يقوض الصداقة والثقة المتبادلة بيننا”، وأضافت: إنها ترفض وتستنكر البيان “بأشد العبارات”.

واتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “أطرافًا ثالثة” بالتدخل في شؤون بلاده.

وقال في رسالة بعث بها السبت إلى بطريرك الأرمن في إسطنبول: “لا أحد يستفيد من تسييس أطراف ثالثة للجدل -الذي ينبغي أن يتولاه مؤرخون- وتحويله أداة تدخل ضد تركيا”.

وفى رد فعل مِن جانبه قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو: “إن اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن يستند فقط إلى الشعبوية!”.

وكتب تشاووش أوغلو على تويتر في أول رد فعل على بيان من البيت الأبيض: “الكلمات لا يمكن أن تغير التاريخ أو تعيد كتابته”.

وأضاف: “ليس لدينا ما نتعلمه من أي شخص فيما يتعلق بماضينا؛ الانتهازية السياسية هي أكبر خيانة للسلام والعدالة”.

وضمن السياق ذاته أعلنت وزارة الخارجية التركية إنها استدعت السفير الأميركي لدى أنقرة بشأن اعتراف الرئيس جو بايدن بأن مذابح الأرمن في عام 1915 خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية تمثِّل إبادة جماعية.

وترفض تركيا اعتبار المجازر التي تعرّض لها الأرمن في السلطنة العثمانية “إبادة” وتقول: إن السلطنة شهدت في نهاية عهدها حربًا أهلية تزامنت مع مجاعة؛ مما أدَّى إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني، وعدد مماثل لهم من الأتراك حين كانت القوات العثمانية وروسيا تتنازعان السيطرة على الأناضول.

الأرمن وحدود الاستفادة:

رحَّب رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان بالقرار التاريخي للرئيس الأميركي معتبرًا أنه “خطوة قوية لصالح العدالة والحقيقة التاريخية”.

ويسعى الأرمن منذ عقود إلى نيل اعتراف العالم بحصول “الإبادة”، وقد بلغ عدد الدول التي تعترف بذلك أكثر من 31 دولة، منها: لبنان، وسوريا، واليونان، وفرنسا، وروسيا، وإيطاليا، وألمانيا، والأرجنتين، والبرازيل، وهدفهم من وراء ذلك ثلاثة أمور: الاعتراف، وبالتالي: التعويض، ومِن ثَمَّ استعادة الأراضي التي كان يسكن الأرمن فيها في شرق الأناضول، والتي هُجِّروا منها خلال الحرب العالمية الأولى، ويرى الأرمن أن شرق الأناضول ليس سوى أرمينيا الغربية التي يقع فيها أيضًا رمز الأرمن، أي: جبل آرارات، الذي يقع اليوم داخل الحدود التركية على الحدود مع أرمينيا، ويعتبر مزارًا لكلِّ الأرمن ولو مِن خلف الحدود.

وقد يحظى الإعلان الأمريكي بترحيب المجتمعات الأرمينية والمشرعين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين ضغطوا من أجل إعلانه، لكنه سيضر أيضًا بالعلاقات المتوترة بالأساس مع تركيا، كما أن الاعتراف بمصطلح الإبادة الجماعية من قبل الرئيس يؤدي إلى قيام مواطنين أمريكيين من أصل أرمني بتقديم مطالبات بالتعويض المالي، والمطالبة بالممتلكات ضد تركيا؛ خاصة أنه في الماضي رفض القضاة بعض دعاوى التعويض والممتلكات المرفوعة في الولايات المتحدة لأن “السلطة التنفيذية لم تقبل ادعاء الإبادة الجماعية”(8).

أوراق ضغط:

مع ذلك، فإن كلًا مِن واشنطن وأنقرة حريصتان على توسيع هامش الخيارات المتاح أمامهما، على نحو سوف يدفعهما إلى الاحتفاظ بأوراق ضغط متبادلة يمكن الاستناد إليها في حالة وصول التوتر إلى مرحلة غير مسبوقة، وهو احتمال قائم من دون شك، في ظلِّ الخلافات العالقة بين الطرفين والتي لا تبدو ثانوية أو يمكن احتواؤها بسهولة، ومن هنا تبدو إدارة الرئيس بايدن حريصة على عدم استبعاد آلية العقوبات في تحديد اتجاهات علاقاتها مع تركيا، وذلك بموجب قانون “مكافحة أعداء الولايات المتحدة”(CAATSA) ، والذي بالفعل فرضت واشنطن بمقتضاه في ديسمبر 2020 عقوبات على رئاسة صناعات الدفاع التركية بسبب شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس- 400″، وربما تتجه الإدارة الأمريكية أيضًا إلى استخدام قيود تجارية على الواردات من تركيا، وذلك عبر رفع التعريفة الجمركية عليها أسوة بسياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

ختامًا: تشهد العلاقات التركية – الأمريكية تصاعدًا في حِدَّة التوتر؛ خاصة بعد القرار الأخير الذي اتخذه الرئيس بايدن بالاعتراف بـ”إبادة الأرمن”؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن كلًّا من واشنطن وأنقرة سوف تسعيان إلى احتواء هذا التوتر، لاسيما في ظل تشابك وتعقد الملفات الإقليمية والدولية التي تحظى باهتمام خاص من جانبهما(9).

خلافات عديدة:

على الرغم من التعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة وتركيا، الذي لعب دورًا محوريًّا في منع الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن عقودًا عدة، فإن العلاقات توترت بشكل متزايد بسبب تسليم الأسلحة التركية إلى المناطق التي يسيطر عليها المتطرفون الإسلاميون في سوريا، وسجن الصحافيين والقضاة والنشطاء الحقوقيين، وتزايد الاستبداد في ظل حكم أردوغان، وشراء صواريخ “أس- 400” المضادة للطائرات من روسيا، واستخدام جماعات وكيلة في نزاعات مختلفة، كما بدا الانقسام بين واشنطن وأنقرة أكثر وضوحًا في شمال شرقي سوريا، حيث دعمت واشنطن قوات سوريا الديمقراطية التي يشكِّل الأكراد غالبيتها من أجل هزيمة تنظيم “داعش” بينما هاجمتهم تركيا واتهمتهم بالإرهاب وتهديد أمنها القومي.

أردوغان – بوتين:

إذا كانت هناك حاجة إلى أدلة أكثر وضوحًا تبرز المصالح المتعارضة بين الولايات المتحدة وتركيا، فليس هناك أدل من تعاطف أردوغان مع زميله القوي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعلى الرغم من المصالح المتعارضة بين موسكو وأنقرة في كلٍّ من سوريا وليبيا وجنوب القوقاز، حافظت روسيا وتركيا على علاقة براغماتية نفعية تحافظ على عدم المخاطرة بهيبتهما، وهو درس تعلمتاه من عدم قدرة واشنطن على الحفاظ على هيبتها خلال خروجها من المنطقة.

وعلاوة على ذلك: فإن التواصل بين بوتين وأردوغان يثير بعض المخاوف في الغرب لأن علاقتهما يمكن أن تضعف حلف “الناتو” الذي يعتبره بوتين -وعلى الأرجح أيضًا أردوغان- عدوًّا على المدى الطويل، وهو ما يجعلهما على استعداد لتحمل الانتكاسات التي تحدث بين الحين والآخر في علاقتهما المشتركة، بما في ذلك اعتراف روسيا المتكرر بالإبادة الجماعية للأرمن.

والآن بعد الإعلان عن انسحاب أميركي كامل من أفغانستان، من المرجح أن يتراجع الوجود والاهتمام الأميركي في تركيا عقب انحسار الأهمية الجيوستراتيجية للولايات المتحدة في هذا البلد قياسًا بما كانت عليه الحال قبل 20 عامًا أو أكثر على الرغم من اتفاق بايدن وأردوغان على إدارة فعالة للخلافات بينهما، وأن يجتمعا خلال قمة حلف “الناتو” في يونيو (حزيران) المقبل(10).

 

1_ رويترز/ دومينيك ايفانز، أورهان كوسكون/ تركيا تصرح أنها سترد في الوقت المناسب على بيان الإبادة الجماعية الأمريكي “الشائن”

2_ think/ سونر كاجابتاي/  اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن يظهر المدى الذي سقطت فيه تركيا وأردوغان

3_ عربي21/ صالح الدهني/ لماذا أعلن بايدن الاعتراف بإبادة الأرمن.. وماذا يترتب عليه؟

4_ setav/ Yücel Acer/ خمسة أسئلة: الدلالات السياسية والقانونية لاستخدام بايدن تعبير “الإبادة الأرمينية” المزعومة

5_ eurasiantimes/ EurAsian Times Desk/ طرد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة F-35 قد يكلف الولايات المتحدة غاليًا

6_ المركز العربي للبحوث والدراسات/ مصطفى صلاح / تداعيات الاعتراف: مسارات العلاقات الأمريكية التركية

7_ عربي21/ صالح الدهني/ لماذا أعلن بايدن الاعتراف بإبادة الأرمن.. وماذا يترتب عليه؟

8_ المركز العربي للبحوث والدراسات/ مصطفى صلاح/ تداعيات الاعتراف: مسارات العلاقات الأمريكية التركية

9_ المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة/ كيف يؤثر الاعتراف بـ”إبادة الأرمن” على العلاقات التركية- الأمريكية؟

10_independent/ طارق الشامي/ بعد الاعتراف بإبادة الأرمن… ما سر التحول الأميركي عن تركيا؟

التعليقات مغلقة.